د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
مرت ثمانية أعوام منذ إفلاس ليمان براذرز، حتى أصبح النظام المالي العالمي ما قبل ليمان وما بعد ليمان، ولا تزال دروس الأزمة المالية مثيرة للجدل، وعندما يتعلق الأمر بحماية النظام المالي وجعله منيعًا أمام ليمان آخر، ولا يزال العالم يرى أن مكتب التحقيقات الفيدرالي فشل في إصدار مذكرات حول التحقيقات مع كبار المصرفيين، فيما يرى العالم على الأقل أن المساهمين عوقبوا، الذين جعلهم يهربون إلى منتجات مأمونة.
الإصلاحات المالية بعد الأزمة أكرهت المصارف الكبيرة على الاحتفاظ بكميات من رأس المال أكثر بكثير من السابق، بهدف الوقاية من الصدمات ولمنعها من المخاطرة برأس مال المودعين من خلال التداول لحسابها الخاص، اقترنت مع انخفاض أسعار الفائدة التي تجعل من الصعب تحقيق ربح من خلال التداول التي كانت تعج بالحركة قبل الأزمة وأصبحت مهجورة تقريبًا.
يبدو أن النظام المالي يتجه نحو نموذج الصيرفة الإسلامية وفق مبادئ الشريعة الإسلامية دون أن يقصد، أي بطريقة اقتصادية، ولكنه لا يزال تائهًا لأنه لم يطبق نموذج المشاركة وفق مبادئ الدين الإسلامي بشكلها الكامل حتى لو لم يتمكن المسلمون من تطبيقه بالشكل الصحيح بسبب أن الصيرفة الإسلامية ما زالت تدور في فلك الصيرفة الرأسمالية، عندما وجدت الدول المتقدمة أن التداول كان خارج الإنتاج الحقيقي وكان السبب الرئيسي في الأزمة المالية.
نهى الدين الإسلامي عن كنز الأموال من دون تحريكها في التنمية، ووضع زكاة على الأموال بـ 2.5 في المائة، من أجل إجبار صاحب المال على استثماره حتى لا يتآكل رأس المال مع مرور الزمن.
رغم ذلك اكتفت الدول الغربية بإعادة قانون جلاس - ستيجل إلى العمل من جديد وهو قانون صادر في حقبة الكساد العظيم، الذي يمنع المصارف التجارية من الدخول في أعمال المصرفية الاستثمارية، وهو قانون ألغي في عام 1999 بدعم من الحزبين باعتبار أنه عفا عليه الزمن، لكن بعد الأزمة المالية تم الاستعانة بهذا القانون مرة أخرى بسبب عدم التوصل إلى قانون بديل.
حتى البنوك التي نجت من الأزمة المالية مثل جولدمان ساكس، وجيه بي مورجان و HSBC، وكان أكبر مصرف في العالم من حيث القيمة السوقية بعد الأزمة المالية ويلز فارجو بفضل تركيزه على الخدمات المصرفية وثقافة شرسة مدفوعة بعمليات البيع، لكن أنموذجه هو الآخر سقط بسبب أن ثقافة المبيعات الساخنة كانت تشجع على الغش والتدليس على نطاق واسع، فموجب قانون جلاس- ستيجل يمنع من ثقافة المبيعات الساخنة، فتراجعت أسهمه ولم يعد المصرف الأكثر قيمة في العالم.
ما اعتبر البعض أن البنوك المركزية أصبحت أقوى من الحد اللازم من خلال ضخ الأموال، ما جعلها لاعبًا اقتصاديًا أكثر أهمية من أي وقت مضى، وكأن الأزمة المالية تحاول إنقاذ الرأسمالية من الرأسماليين.
بعد تلك الأزمة التي أدت إلى أن أسواق التمويل قصير الأجل التي كانت المصارف تعتمد عليها للحصول على التمويل، أصيبت بالجفاف، كما أصبح البنك المركزي مقرض الملاذ الأخير، بحيث يدعم الأسواق في الوقت الذي تصاب فيه بالجفاف، وينقذ المؤسسات التي كانت حالتها محفوفة بالمخاطر تهدد الأسواق.
فإن إعادة التنظيم المالي عملت فقط على تقليص أية دينامية في القطاع المالي، وفي الوقت نفسه جعلته عرضة للعدوى أكثر من قبل، ولا يزال العالم مصعوقًا ويتلمس الحقيقة، واستعادة نموذج مالي فعال.
في جلستة 22-9-2016 وافق الفيدرالي الاحتياطي الأمريكي بإبقاء الفائدة الأمريكية دون تغيير مع تلميحات بشأن رفع أسعار الفائدة هذا العام في ديسمبر 2016 مع تخفيضات التوقعات على المدى الطويل، ولم تصل رسالة مجلس الاحتياطي إلى درجة الوعد الصريح بزيادة تكاليف الاقتراض بنهاية العام.
إبقاء الفائدة دون تغيير، وبجانب انخفاض عدد مرات رفع أسعار الفائدة التي توقعتها اللجنة في عامي 2017 و 2018 كان كافيًا لدفع العملة الأمريكية إلى أدنى مستوى لها في أربعة أسابيع، لكن تصويت ثلاثة أعضاء بلجنة السياسات بمجلس الاحتياطي الاتحادي رفع أسعار الفائدة ساعد على دفع الدولار للصعود مرتفعًا 0.4 في المائة أمام الين، كما هبطت أسعار الذهب في العقود الفورية 0.3 في المائة فيما ارتفعت أسعار الذهب في العقود الأمريكية الآجلة 0.4 في المائة، لكن أسعار الذهب ارتفعت بعدما أبقى الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة دون تغيير بالتوازي مع ارتفاع أسواق الأسهم الخليجية والعالمية.
جعلت عقود التحوط الخيار الأول المطروح أمام رجال الأعمال لتغطية مخاطر العقود التمويلية، حيث إنه في حال جرى التمويل عبر البنك بسعر فائدة متغير يطلب البنك بسعر فائدة متغير يطلب منه تثبيت الفائدة بشراء عقد تحوط لضمان تغطية المخاطر (النموذج الإسلامي يعتمد نموذج المشاركة بين الطرفين لتحقيق العدالة في جميع الأحوال وهو ما يجعل البنك يدرس جدوى المشروع بعناية فائقة حتى لا يدخل في خسارة، بينما نموذج الفائدة يكتف بتحصيل فوائده وبيع الدين لجهات أخرى).
مستثمرو أسواق السلع يتطلعون إلى نقطة تحول المواد الأولية، وتوقع مسار السوق، واتجاه الأسعار في المستقبل، وتشير الأعوام القليلة الماضية إلى أن سوق سلع المواد الأولية شهدت مشتريات صافية، على أنه لا يلبث أن يبيع المستثمرون مقتنياتهم، ووفقًا للأبحاث الأخيرة في بنك باركليز، فإن السلع قد شهدت تدفقات استثمارية بقيمة 45 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى أغسطس 2016، وهو ارتفاع قياسي يحدث لأول مرة خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2016، وإذا ما استمر هذا الاتجاه خلال العام فإن 2016 سيشهد أول تسجيل فيه تدفقات صافية إلى سوق السلع لأول مرة منذ أربعة أعوام.
لكن الأسواق ينتابها هواجس ما زالت تحوم حول نمو الاقتصاد العالمي، ما دفع أصحاب الرساميل نحو اقتناء الذهب تعبيرًا عن رغبة المستثمرين في الاستفادة من التقلب في السلع المنفردة، ما جعل الذهب أكثر السلع المنفردة شعبية للاستثمار خلال عام 2016 بتدفقات بلغت 27 مليار دولار، يحدث ذلك عقب ثلاثة أعوام متتالية من التدفقات الصافية للذهب، وهي متقدمة على الرقم القياسي المتحقق عام 2009 بعد الأزمة المالية.
ما يعني أن السلع بدأت تضمن التنويع وأنها أداة تحوط ضد التضخم، ويصبح عام 2016 قد يصبح الأول في التدفقات الصافية الداخلة في مؤشرات السلع مرتبطة بالاستثمار منذ عام 2012، وهو ما يعني أن هناك مستثمري أجل طويل يعاودون الانخراط في السوق.
على الرغم من كل ذلك، فإن السؤال العريض يظل هو: هل في الإمكان استدامة تلك التدفقات الداخلة في سوق سلع المواد الأولية؟، لكن تشير الأعوام الماضية إلى أن سوق السلع شهدت مشتريات صافية، على أنه ما يلبث أن يبيع المستثمرون مقتنياتهم، أي أنهم يمارسون المراهنة على ارتفاع الأسعار خصوصًا في سلعة النفط التي هي في أدنى مستوياتها من الأسعار.
توقعات بتباطؤ النمو في الولايات المتحدة إلى 1.6 في المائة هذا العام 2016 مقتربًا من منطقة اليورو، فواضعو السياسات يواجهون توليفة صعبة من ركود التجارة والاستثمار، وتباطؤ الإنتاجية، ففقدان الزخم في الاقتصادات المتقدمة يؤثر في البلدان النامية بمتوسط نمو أقل من 4 في المائة، فاللوالب الانكماشية تظل خطرا نتيجة هروب رأس المال وتخفيض قيمة العملة وانهيار الأصول.
الأزمة المالية ليست مثلما كنا نظن أنها تقتصر فقط على انهيار المصارف التي أحدثت انهيارًا في النظام المالي، بل كذلك طريقة حساب أرباح المؤشرات بحاجة إلى إمعان النظر فيها وما يمكن أن تجعل الأسهم تبدو أكثر، أو أقل تكلفة مما قد تكون فعلاً.
ويتذكر العالم الربع الأول من عام 2009، الأدنى بالنسبة للأسهم الأمريكية خلال الأزمة المالية، باعتبارها فرصة تأتي مرة في العمر لشراء الأسهم، مع الإدراك المتأخر المثالي لمن تخلى عن أسهمه ولم يشتر من أدنى سعر لتعويض خسائره، فمثل هؤلاء زاد رأس مالهم أكثر من الضعف في الأعوام السبعة أو أكثر التي مرت منذ ذلك الحين.
مؤشر ستاندرد آند بورز 500 الذي يعد أحد مؤشرات الأسهم الأمريكية الأكثر استخدامًا من قبل المستثمرين، كان مكلفًا في ذلك الحين حيث كان يتداول بمعدلات سعر إلى الربح تبلغ أكثر من 20 ضعفًا، وكانت شركة أبل أكبر شركة من حيث القيمة في المؤشر مع ترجيح بنسبة 3.4 في المائة يمارس تأثيرًا أكبر بكثير من أداء المؤشر من الشركات الأعضاء الأصغر، حيث بلغت أرباح أبل لمدة سنة 47 مليار دولار، بينما بلغت الخسائر المجتمعة للشركات الأعضاء الأربع الأقل ربحية في المؤشر خلال نفس الفترة (أباشي، وديفون إنيرجي، وفريبورت- ماكموران، وتشيسابيكي إنيرجي) كانت 48.3 مليار دولار.
وحققت الشركات الأعضاء الثماني الأكثر قيمة في مؤشر ستاندرد مجتمعة صافي أرباح بلغ 135 مليار دولار، تم إلغاء هذه الأرباح بسبب خسائر الشركات الـ30 الأكثر خسارة التي أعلنت مجتمعة عن خسائر 125 مليار دولار، بل حتى مؤشر راسل 2000 يعد أسوأ من مؤشر ستاندرد بسبب أنه يستثني الخسائر من مؤشره، ما جعله يتم تداول مؤشره أعلى بكثير يبلغ 84 مرة ضعف أرباح نفس الفترة.
فحساب نسبة السعر إلى الأرباح في عام 2009 بأنها مكلفة هو تضليل، حيث إن نحو 80 شركة أعلنت عن خسائر بلغت 240 مليار دولار، لكنها لا تشكل سوى 6 في المائة من الترجيح، ما يجعل المستثمرين يتجهون نحو البيع بكثافة، بينما كان ينبغي للمستثمرين قبل البيع بكثافة إلقاء نظرة عميقة على حقيقة المؤشر المضللة.
وما زالت نظرة الفيدرالي الأمريكي لرفع الفائدة قاصرة فهو ينظر فقط لتحسن سوق العمل الأمريكي ما يمهد لرفع أسعار الفائدة في ديسمبر 2016.