علي الصراف
حسنا فعل الكونغرس الأمريكي بإقرار قانون «جاستا»، بالضد من نقض الرئيس باراك أوباما. فهذا القانون إذ يكشف أن الحماقة يمكن أن تكون سيدة الموقف في الولايات المتحدة، فإنه يُعلّم كل دول العالم الأخرى، وليس المملكة العربية السعودية وحدها، درسا ثمينا وبسيطا للغاية: هذا كونغرس لا تجدر الثقة به. إنه يمكن، لأغراض دنيئة جدا أو صغيرة جدا، أن «يبيع» أقدم حلفاء البلاد حتى ولو انطوى ذلك على اعتداء صارخ على القانون الدولي نفسه.
هناك، طبعا، اعتبارات شعبوية للغاية وراء إقرار ذلك القانون. فأعضاء الكونغرس الذين يسعون إلى الحفاظ على مراكزهم على مقربة من الانتخابات الرئاسية يمكن أن يتذرعوا بأي ذريعة، حتى ولو كانت رخيصة، من أجل القول إنهم يستحقون البقاء في تلك المراكز.
هذه هي كل المسألة. وهم ليسوا إلى تلك الدرجة من الجهل لا بالقانون الدولي الذي يحمي سيادة الدول، ولا بالدور المشهود الذي تقوم به المملكة في مكافحة الإرهاب، ولا بالمخاطر التي تتعرض لها بسببه، ولا بالتكاليف المتعددة الأبعاد التي ينطوي عليها الإضرار بمكانة الولايات المتحدة في العالم، ولا بالسخرية التي يمكن أن يتسبب بها القانون من جانب كل القوى العظمى الأخرى، ولا باستحالة تطبيق ذلك القانون أصلا.
لقد أقروه لسبب أرخص، وفضلوه بالعمى، في دلالة على أن الحمق يمكن أن يكون وجها آخر للسياسة.
السؤال الجدير بالاعتبار هو: من هم أولئك القضاة الذين سيحاكمون المملكة؟ من هم «الشهود» من الدول الأخرى الذين سوف «تستدعيهم» للإدلاء بالشهادة؟ من سيأتي أصلا؟ وما هي الأدلة الفنتازية التي سوف يستندون إليها؟
إنه قانون-مهزلة.
الشعبوية، على أي حال، مؤشر خطير على ما انتهى إليه الحال في الولايات المتحدة. وكل ما تحتاجه هو أن تضيف إليها أغراضا رخيصة، لكي تبدو كجنون مطلق.
الخطر هنا، إنما يتعلق بعواقب تلك الشعبوية على مستوى العلاقات الدولية، بل وعلى مستوى الاستقرار الذي تتطلبه تلك العلاقات من أجل الحفاظ على المصالح المشتركة.
هناك إذن، ما يبرر محاكمة الولايات المتحدة على الكثير من الجرائم التي ارتكبت هنا وهناك وهنالك من جانب «التفاحات الفاسدة» في سلة الأعمال البشعة.
هل تذكرون ما فعلت تلك «التفاحات الفاسدة» في سجن «أبو غريب» في العراق مثلا؟ هل تذكرون ما فعلت تلك «التفاحات» في أفغانستان من قتل عشوائي للمدنيين، في مثل آخر؟ هل تذكرون الانتهاكات الكثيرة التي ظلت تُرتكب باستمرار، ومنها استخدام أسلحة كيميائية، أو قتل أطفال بالجملة لم تحمهم الملاجئ؟
المتضررون من تلك الأعمال، على هذا الأساس، يمكنهم ألا يكتفوا بمحاكمة مرتكبي تلك الجرائم، ولكن يمكنهم أن يحاكموا الولايات المتحدة كدولة أيضا.
هذا حق الآن. ويمكن تفعيله برعاية دعاوى يرفعها المتضررون في كل مكان ممكن.
الفرق هنا، هو أنه بينما كانت تلك الأعمال تجري بصفة ذات طبيعة منهجية، وفي إطار سياسة تدخلات تقوم على أساس «الترويع والصدمة»، فإن الإرهاب الذي تكافحه المملكة، جنبا إلى جنب الولايات المتحدة، وكل العالم المتحضر، لم يكن ولا بأي صور من الصور (وهذا قول يخجل المرء حتى من قوله لفرط البداهة فيه) منهجا رسميا، ولا حظي بأي دعم، ولا تم الدفاع عنه أو تبريره.
ولكن هات شعبوية مماثلة لكي يمكن تحويل ما كان منهجا في الترويع، إلى محاكمة تسمح بملاحقة الولايات المتحدة، وليست فقط «تفاحاتها الفاسدة».
وهي، بالمناسبة، «تفاحات» يتم النظر إليها بعنصرية شديدة أيضا. فـ«تفاحاتهم» ليست كـ«تفاحاتنا» طبعا. الأولى مجرد «تفاحات» عابرة مطلوب لها النسيان والمغفرة. أما الثانية، فإنها تفاحات تنخر في الذاكرة حتى ليجوز أن تُحاكم عليها دول!
الشعبوية موجة، على أي حال، تؤتي أضرارها، وترحل.
برغم كل ذلك، فالأرجح أن المملكة لن تعامل الأمر بانفعال ولا بغضب.
وهذا أخطر!
إنها من الحكمة والرشد بما يكفي لأن تجلس على ضفة النهر لترى كيف ستأتي العاقبةُ طافيةً بهدوء، وهي تحمل الدرس والعبرة.