لطالما تساءلت مثل الكثير من الناس عن الوجه الآخر للحرية، ذلك الوجه الذي نسمع عنه كثيراً بينما هو لم ولن يأتي، بل إن الحرية قد جاءت قبل وجهها الآخر ومحقت بذلك كل تلك الأوهام التي زرعها المتشددون في رؤوسنا حول بعبع الحرية، فاكتشفنا مؤخراً أنها ليست إلا الحياة الطبيعية التي يفترض بنا أن نعيشها. واكتشفنا أيضاً أنها لا تحمل إلا وجهاً واحداً مكشوفاً أمام كل الناس، ولهذا الوجه حدود وآداب يجب احترامها ولا يجب تجاوزها على الإطلاق.
لم يدرك المتشددون والمهووسون بتحجيم وقمع الحريات أو تقييدها بشكل خاطئ أن ذلك القمع الذي يفرضونه على المباح لا يفعل شيئاً عدا أنه يزيد هوس بعض الناس ورغباتهم بالحصول على الحرية وفوقها حرية مضاعفة «قد لا تكون مباحة» وإنما يمارسونها في الخفاء في انتقام غير مباشر لحريتهم المباحة التي قمعتها مزاعم الخصوصية المجتمعية!
وعلى سبيل المثال أتذكر قبل سنوات عديدة حين كان دخول المراكز التجارية مقيداً ومخصصاً للعوائل فقط كان لدى الجميع هاجس بأن دخول الشباب إلى تلك المراكز سيحول تلك المراكز إلى بيئة خصبة لانتشار السلوكيات المنافية للآداب العامة، كمغازلة النساء ومضايقتهن وما إلى ذلك، وقد تخوف الناس أكثر حين جاء السماح بدخول الشباب دون قيود. إذ عارض الكثيرون ذلك القرار ورفضوه وتحدثوا عن مخاطره وآثاره، ولكن شيئاً مما تحدثوا عنه لم يحدث، بل ظلت الأمور تسير بشكل طبيعي، وحين تحدث أمور تخالف الأعراف الدينية والمجتمعية فإن أولئك الشباب كانوا على قدر من المسؤولية برفضهم لتلك السلوكيات ونبذهم لمن يقوم بها. لقد كان ذلك حين حصلوا على حريتهم وأصبح الشباب يدخلون لتلك المراكز بحرية، فثبت عياناً بياناً أن الحرية لا ترفع التكليف ولا تلغي المسؤولية.
الأمر نفسه حدث في تعاملنا مع التقنيات الحديثة ومثال ذلك ما صاحب الهاتف الذكي حين دخل المجتمع من ضجة وصخب وخوف من آثاره السلبية، وبعد عدة سنوات أصبح الكل يحمل هاتفه في جيبه ومن ضمن هؤلاء من كانوا يوماً يحذِّرون منه. أيضاً لو قرأنا في التاريخ حول الأزمنة التي كانت المرأة فيها تمنع من حقها وحريتها في التعليم والتحذيرات التي كانت تتسيد المجتمع من خطورة تعليم المرأة، لوجدنا أن المرأة حين تعلمت قد ساهمت في تقدم المجتمع بشكل إيجابي، وظلت تلك المخاطر التي كانوا يقولون عنها مجرد أوهام تعيش في الأدمغة فحسب وليس على أرض الواقع.
إن الحرية لا تكون حرية ما لم تكن حرية مسؤولة، والشخص الحر هو شخص مسؤول عن تصرفاته، فالحرية لا تعني الانفلات من قائمة الآداب الدينية والقوانين المجتمعية والأعراف الثقافية، بل تعني الانسجام في ممارسة ما أقره وأرغبه بما لا يضر الآخرين ولا يزعجهم ولا يعتدي على حريتهم، علماً بأن عدم الإضرار بالآخرين له أيضاً حدود كبيرة لا يعيها المهووسون بقمع الحرية فحسب.
إذن يمكنني القول إن الوجه الآخر للحرية ليس موجوداً من الأساس. وكل التخويف الذي مارسه المتشددون باختراعهم وجهاً دميماً للحرية ليس إلا من أجل قمعها فحسب، وهم ينسون بذلك أو يتناسون أن قمع الحرية لا يؤدي إلا لظهور شكل مقابل ومضاد للحرية وهو الاستبداد.
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
AaaAm26 @