عانت سريلانكا من اضطرابات دامت ربع قرن (منذ عام 1983وحتى عام 2009 بعد قضاء الجيش السريلانكي على زعيم متمردي نمور التاميل)، فقد انقسمت البلاد إلى ثلاث مجموعات؛ النظام الحاكم والثوار في الجنوب والعصابات الانفصالية في الشمال، ولم تدخر الحكومة وسيلة للقضاء على أعدائها، الأمر الذي جعل البلاد تغوص في العنف مارسته الأطراف الثلاثة على نحو لا يظهر شيئًا سوى بشاعة الإنسان؛ التي تجعل المرء يتساءل إن كان يعرف أخاه أو قريبه أو جاره حقًا، كما يحدث في كل حرب أو نزاع يطال قبحه سوى الأبرياء أكثر من غيرهم!
في روايته «شبح أنيل»- الصادرة عن دار ورد عام 2001 بترجمة أسامة إسبر- يصف مايكل أونداتجي تلك الأحداث حين تعود «أنيل تيسارا»، طبيبة شرعية سريلانكية الأصل غادرت سريلانكا إلى بريطانيا ثم الولايات المتحدة ودرست الطب الشرعي هناك، موفدة من منظمة لحقوق الإنسان للتحقيق في تجاوزات النظام السريلانكي، يساعدها في هذه المهمة «ساراث دياسينا» عالم الآثار الذي ظل الشك يراود أنيل حول ولائه وإخلاصه في المهمة الموكلة إليه. وبعد عثورهما على هيكل عظمي عرفت أنيل من الآثار الباقية على عظامه أنه أحرق حيًا وأنه دفن في منطقة تقع تحت سيطرة الدولة، فكتبت تقريرها للمنظمة الحقوقية حول ذلك، وفي الوقت الذي كانت تعرض فيه تقريرها أمام ممثلين من الحكومة، عارضها زميلها ساراث محاولًا أن يثبت خطأها، قائلًا إن عليها أن تحقق في الجرائم التي يرتكبها «المتمردون» في حق جنود النظام! ظنت أنيل أنه خانها وتخلى عن فكرة كشف حقيقة ما يحدث أمام العالم – الذي سيظل صامتًا على الأغلب كما يحدث اليوم- «فالجميع خائفون والخوف مرضٌ قومي» كما قال لها مرة.
عرفت أنيل لاحقًا أنه فعل ذلك كي ينقذها، وقد طلب منها إنهاء تقريرها ومغادرة البلاد سريعًا كما رتب لها. لم يتخل ساراث عنها أو عن مهمته التي آمن بها رغم خوفه، وظل شجاعًا بطريقته حتى اللحظة الأخيرة، اللحظة التي مات فيها تحت التعذيب، وعرفه أخوه الطبيب «جاميني» من صور الجثث التي كانت تعرض عليه، مات مغفل الاسم وحيدًا دون أن يكون معه أحد في لحظاته الأخيرة سوى جلاديه!
كل واحد من الشخوص الرئيسة في الرواية كان يحيا عالمه بطريقته، أنيل التي تسعى ربما للتكفير عن غيابها عن بلادها طويلًا بمحاولتها إثبات الحقيقة والوقوف إلى جانب الشعب، و ساراث الذي ظل يعمل بصمت محتفظًا بغموضه حتى الرمق الأخير مؤمنًا «أن الوضوح ليس حقيقة بالضرورة»، و جاميني الذي هجرته زوجته لانهماكه في العمل في المستشفى لساعات طويلة، كل منهم كان يحاول علاج جرح بلاده المفتوح باتساع، بأيديهم كضمادات تعجز عن رفو «الخرق الذي اتسع على الراقع».
في ظل العبث الذي يحتل العالم الآيل للهراء، لا تبدو أي واحدة من هذه الشخصيات خيالية، أو أنها لم تعد كذلك للأسف، فما يدور اليوم في سوريا مثلًا يجعلنا نرى استنساخات كثيرة لكل شخوص الرواية، بدءًا من النظام الحاكم وانتهاءً بالأطباء الذين يحاولون إصلاح ما تفسده يدا ذلك الطاغية!
في نهاية الرواية يعمل أناندا- فنان بسيط متخصص برسم عيني بوذا- على جمع تمثال بوذا الذي فجره عدد من الرجال الباحثين عن الكنز داخله دون ان يعثروا إلا على الفراغ. يشرف أناندا على إعادة تجميع التمثال، الذي لم يعد إلهًا، وكأن ذلك يعني تجميع سريلانكا وتركيبها مثل قطع الأحجية من جديد، ويرسم العينين في طقس احتفالي يبدأ فجرًا ويكتمل مع شروق الشمس، حين يفتح بوذا عينيه- اللتين لا يكون كاملًا دونهما- على ضوء جديد يغمر سريلانكا والعالم، ربما كان الضوء في نهاية النفق الذي يتحدثون عنه كثيرًا!
- بثينة الإبراهيم