د. صالح بن سعد اللحيدان
الأصل في سياسة الدول حسب مسارها السياسي والأمني والاجتماعي والقضائي أن ذلك كله يعود جزمًا إلى الموهبة، الموهبة غير المكتسبة، فإن جاء الاكتساب كان شحذًا للموهبة وقوة لقدرتها على العمل الجاد المركز المتقن سواء بسواء.
والقضاء أصل من أصول بناء الحياة؛ إذ إليه يعود تقرير الأحكام بالإلزام بين طرف وطرف وخصم وخصم وجماعة وجماعة؛ ذلك أن القاضي في مجلس القضاء يحكم بما يظهر له بتأن وروية واتزان وبُعد نظر مع سابق عمق جيد وصفاء ذهن مكين وسعة اطلاع سالم من كل خلل، والموهبة تزيد هذا بصائب من حكم جليل.
ولا ينفع في القضاء العجلة أو الأخذ بمجرد الرأي أو تطبيق حال على حال أو واقعة على واقعة أو قضية على أخرى، فضلاً عن الأخذ بنص ضعيف أو نظر مرجوح.
وإذا كان القاضي قد طُبع على الموهبة وخلق عليها ساس نفسه؛ فيتكشف له وأمامه معضلات الأمور، تلك التي قد تنقلب على غير فيؤجل القضية أو ينظرها، ويكون في نظره نوع من وجوب إعادة النظر.
ولهذا نجد الموهوب ليس في القضاء فقط يدرس ويوازن ويبدي ويعيد ويستشير، حتى من لم يرَ أنه على سياسة. وقد فعل هذا عبدالرحمن الناصر وأبو جعفر المنصور، ومن قبل هذين عمر بن عبدالعزيز.
ومن القضاة الكبار الذين نهجوا هذا النهج يحيى بن سعيد الأنصاري وسليمان بن حرب، وكذلك فعل شريح القاضي وشريك منذ أقدم الأزمان.
ومنها فالقضاء لا يصلح له إلا المكيث قوي التأمل البعيد عن الظهور.. لكن قوة العمل مع الإتقان وحسن الخلق على كل حال.
ولهذا كان القضاء في الدول المتعاقبة خلال العهود بنية أصلية في تأسيس الحضارة، وبناء العود الذي لا يكون الأمر إلا من خلاله محاطًا بولاء تام لولي المسلمين؛ ولهذا صنف الأقدمون في القضاء، وأطنبوا وشرحوا وقعدوا وأصلوا، وبنيت على هذا كله كتابي (حال المتهم في مجلس القضاء).
من هذا الباب وما يتطلبه هذا المعجم أبين ما يدور حول لفظ القضاء من حيث المقتضى اللغوي لنصل من خلال ذلك إلى المراد منه حسب السياق المعجمي عند المصنفين.
فلنبدأ:
أولاً: قضاء بمعنى أوحى وأنزل.
ثانيًا: قضاء بمعنى أمر.
ثالثًا: قضاء بمعنى قال أو دبر.
رابعًا: قضاء خلق وأوجد.
خامسًا: قضاء ألزم، وهذا نتيجة اللهو.
سادسًا: قضاء بمعنى حكم.
سابعًا: قضاء بمعنى فعل وأنهى.
- وقضى لي (وهبني وحكم لي).
- وتقضي لي مثله على سبيل الاستمرار.
- ويقضون يحكمون، ومنه يمضون، ومن ذلك قضوا وساروا.
- ومن ذلك أيضًا يقضون الليل يبيتون، وهذا من باب التضاد، وعلى هذا يراد به يسهرون.
- وهل قضى لك؟ حكم لك.
وفي الجملة، فإن القضاء على هذا الأساس وما تقدم قولي فيه أجزم كما جزم غيري من الأقدمين أنه سياسة تتعلق بذات العقل لا بذات القلب؛ ولهذا فالقضاء من ضخامته ثقيل، لا يقوم عليه ولا يقوم به إلا الثقيل؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده يكتشفون الموهبة، ثم يوظفونها، ثم ينمونها، ثم يحافظون عليها؛ ولهذا سار الدهر بذكر الأولين على تجرم العصور.
ويكفي في القضاء قوة الاكتساب إذا تضمن ذلك قوة التأني وشدة المواجهة، وتمام العدل بين طرف وطرف، والمكث الطويل في نظر القضايا، والإحاطة بأصولها وفروعها كافة؛ ذلك على أن الحكم على الشيء لا يمكن أن يكون إلا بتصوره تمام التصور. والله الموفق.