محمد الدبيسي
ثالثا: (أسرة الوادي المبارك في الميزان).. صدر عن مكتبة الملك عبدالعزيز العامة عام 1426هـ, ولعل القارئ الكريم يحيط بأطرافٍ من خبر تلك الجماعة الأدبية, التي تأسست في المدينة المنورة, على ضفة وادي العقيق المبارك عام 1371هـ, وكان الخطراوي من أعضائها المؤسِّسين, واستمرت حيَّةً وفاعلةً ومنتجة, ومنتمىً أصيلاً لأعضائها وروادها حوالي ربع قرن, حتى تقدم أعضاؤها بطلب تأسيس نادٍ أدبي بالمدينة فكان النادي.. وكان ذلك في عام 1395هـ.
ويؤرخ الكتاب لحياة تلك الأسرة, وأعضاءها المؤسسين, ونشأتها وأهدافها, ومجالات أنشطتها, وعلاقتها بالنخب المثقفة والعالمة, والطبقات العلمية والمشايخية الدينية. واتصالها بالأنشطة المسرحية والفنية والموسيقية بالمدينة المنورة في ذلك الوقت, ورعايتها لها وحفاوتها بها. وكانت تلك الأسرة هي الجماعة الأدبية الوحيدة في الحجاز, التي استمرت حياتها ربع قرن, ملتزمة بنظام دقيق للفعاليات والمناشط, والتواقيت الزمنية لها. وهي الوحيدة كذلك, التي ينبري أحد أعضائها لتدوين تاريخها ومسيرتها بذلك التوسع, والأمانة في التسجيل, والدقة في التوثيق. والترتيب المنهجي الدقيق للموضوعات, والمراحل الزمنية في حياة تلك الجماعة الأدبية.
وتكمن أهمية هذا الكتاب في مجال التاريخ الأدبي.. كونه يسبر مرحلة بالغة الحساسية والأهمية في تاريخ أدبنا المعاصر, التي ربما جاز لنا أن نصفها بمرحلة التكوين.. ويعرض إلى بناها ومزاجها وأفكارها وتطلعاتها, ويجلي بنية الهموم والأفكار, التي كانت تشغل أذهان الأدباء والمثقفين والعلماء, بتنويعاتهم وطبقاتهم التي أشرنا إليها آنفاً. كما يجلِّي لقارئه مناخ المرحلة الزمنية التي نشأت فيها الأسرة, والاتجاهات الفكرية والأدبية السائدة فيها, والركائز المعرفية والثقافية الداعمة والمؤثرة في حركة الفكر والأدب آنذاك. ومن مظاهر أهميته؛ أنه الوحيد في مجاله الذي يولي جماعة أدبية أهلية هذا الاهتمام, لما لتلك الجماعة من دورٍ أدبي ناهض وفاعل, في حركة أدبنا الوطني بعامة, وفي الأدب بالمدينة المنورة بشكل خاص.
فمن تلك الجماعة.. انبثق وانطلق شعراء مثل: محمد العامر الرميح, ورشيد, والصيرفي, والخطراوي نفسه, وغيرهم. وكتَّاب قصة ورواية, مثل: محمد عالم أفغاني, وحسين علي حسين, وعلي حسون, وغيرهم. ونقاد مثل: عبدالرحيم أبو بكر, والخطراوي كذلك. ومن القضايا المهمة التي حرَّرها الخطراوي في هذا الكتاب؛ حيوية المسافة واتصالها بين طبقة الأدباء والشعراء والكتَّاب, وبين العلماء في مجالات أخرى, والتفاعل بينهم. الذي أنتج وأنجز عطاءً علمياً وأدبياً وفكرياً ثراً..أشار إليه الخطراوي في الكتاب.
والطريف هنا.. أن مكتبة الملك فهد الوطنية, صنَّفت الكتاب ضمن سجلاتها التوثيقية في مجال: (الأُسر والقبائل), لأن حركة التأليف لدينا, لم تعهد أو تألف مثل هذا النوع من المصنفات الأدبية.
رابعاً: سلسلة التحقيقات العلمية..: إجمالاً, فإن شأو الخطراوي فيها.. عظيم قيم الإسهام, ونوجز الحديث عنها, بالإشارة إلى تحقيقه وإخراجه دواوين شعرية لشعراء مدنيين, هم: محمد أمين الزللي, وعمر إبراهيم بري, وإبراهيم الأسكوبي, وفتح الله بن النحاس. وهي من جملة أحد عشر تحقيقاً علمياً لنفائس المخطوطات في الشعر والأدب والتاريخ والتفسير. ولكل واحد من أولئك الشعراء؛ الذين عني بهم الخطراوي, أهمية كبيرة في ديوان الشعر المدني خاصة, والشعر العربي بعامة. فأولئك الشعراء ينتمون إلى حقب تاريخية, تستحق إخراج تراثها الأدبي النوعي وإبرازه, لأن المدينة المنورة فيها كانت في أوج عطائها المعرفي والأدبي المميز.. فأخذ على نفسه إخراج شعرهم محققاً تحقيقاً علمياً, ملماً بشروط فن التحقيق ومتطلباته, مع مقدمة ضافية مفصَّلة عن حياة كل واحد منهم, والبيئة التي نشأ بها, والفنون التي برع فيها غير الشعر.
كما أصدر الخطراوي, كتباً أخرى..عن كتَّاب القصة في المدينة المنورة, فأفرد كتاباً للكاتب القاص محمد عالم أفغاني, رائد الترجمة والقصة والمقالة. وكتاباً آخر, عن محمد سعيد دفتردار الشاعر والمؤرخ. وكتاباً ثالثاً للشاعر (عبدالرحمن عثمان, مبدع الشعر ومنجب الشعراء).
أما خاتمة هذه النماذج وأعلاها شأناً عند مؤلفه, وأقربها منزلة لديه-كما كان يقول- فهو كتاب:( مدخل إلى علم ثلاثيات القرآن الكريم توصيف وتأصيل), وكان رحمه الله يفخر بإنجازه هذا الكتاب, وقد قضى في تأليفه عقداً من الزمن, وهو تناول فني يمكن أن يُدرج ضمن المؤلفات المعنيَّة بالإعجاز البياني في كتاب الله الكريم, وقد غاير به من جميع ما أُلف قبله قديماً وحديثاً, حول هذا الرقم وهذا المعنى, يقول: (أما ثلاثياتي, فلها معنىً آخر وشأن مغاير, وأتوقع أن ينطوي في حبائها, كل ما يحتمله رقم ثلاثة, وفقاً لدلالته اللغوية, وهي: التكوين, والتفكيك, والتكميل.. وما الحياة في عمومها إلا مراحلَ ثلاث, تتحقق بالتكوين, وتجمُل بالتكميل, وتنتهي بالتفكيك..), وقد انتهى من هذه الفكرة, ومن خلال هذه الرؤية..إلى إحصاء ما ورد في النص القرآني من ثلاثيات, صريحاً أو مستبطاً, ومحاولة تأويل هذه الثلاثيات, وبيان وجهَ الإعجاز فيها, وقد لمس كما يقول: (أن أوجه الإعجاز فيها تتعدد, ولا تخضع لمقياس واحد, فالوجه في بعضها تشريعي, أو اجتماعي, أو علمي, أو غيبي, وهو في الثلاثيات المصرَّح بها, في غاية الوضوح, وفي الثلاثيات المستنبطة؛ ينتقل عبر مستويات مختلفة, ويترسم خطى الاحداثات العقليةِ والوجدانية, منطلقاً من المعطيات الأساس, التي تضع يدها على عالم البراهين, حتى إذا ما أثمرت فكراً ناضجاً؛ أعطت نفسَها الحرية, في اجتذاب أدواتها وأداء مهمتها المنوطة بها,... ومن هنا تتضح أهمية هذه الثلاثيات, فهي لا تبحث عن الجوانب التشريعية, ولا تتصيد الغيبيات في القرآن الكريم, ولكنها تسهم في دعم الجوانب الجمالية, وتجلية مواطن الإعجاز الفكري في كتاب الله).
وبعد.. إن ما استعرضته قليل من كثير, ومستلات يسيرة من مكتبة تربو مصنفاتها على الأربعين كتاباً, في مجالات المعرفة المختلفة, ادخر الراحل العظيم حياته لأجلها..وقد أوجزت الحديث عن جزء يسير منها فيما سبق.. لألمح إلى أن إنتاج الخطراوي الشعري, ومع أهميته الفنية وخصوبته الإبداعية, وموضوعاته المتنوعة, ضئيلٌ إذا ما قورن بإسهامه المعرفي في المجالات التي ألفينا طرفاً يسيراً منها آنفاً.. الأمر الذي يعكس قيمة ذلك الإسهام وغزارته وثراءه وعمقه. وهو ما يجعل صاحبه في مصاف العلماء, الذين أخلصوا للمعرفة, وصدَقوها وصادقوها, وأثروا مجالاتها المتعددة.