فيصل أكرم
كيف ندخل في شيء لم يعد موجوداً؟ سؤال قفز إلى مخيلتي وأنا أتابع كتابات بعض الأصدقاء من الأدباء الذين سبقوني بالانضمام إلى العوالم الافتراضية المشرعة على شبكة الإنترنت، يلوّحون فيها باعتزامهم على العزلة، كأنما هم قد اكتشفوا فجأة أن (العزلة) التي نعرفها طيلة الأزمنة الماضية لم تعد موجودة في عالمنا اليوم قطعاً، فأحبوا أن يجربوها الآن.. الآن فقط.. ربما لأن تجربتها عندما كانت موجودة فعلاً لم تكن بالأمر الهين، فالعزلة – لمن يعرفها – تشبه الموت من طرف واحد، هو العالم من حولك، بينما أنت حيّ فيه ولكنك لا تهتم بشيء منه ولا تعرف عنه أكثر مما عرفت. تلك هي العزلة التي مارسها كثيرون عبر العصور، ومنهم من خرج منها بتجربة عظيمة، ومنهم من أعطى إبداعاً من خلالها، ومنهم من لم يخرج حتى مات.
أما ونحن قد وصلنا إلى هذا العصر الذي جمع العالم كله، بأخباره وعلاقات ناسه، في جهاز كمبيوتر أو هاتف محمول، فالعزلة هي التي ماتت وشبعت موتاً، ومن يحسب أنه بانقطاعه عن الاحتكاك المباشر بالناس قد فاز بالعزلة فهو تماماً كمن يعتقد بأن عدم معرفته بشيء معين يعني عدم وجود ذلك الشيء أصلاً!
العزلة ماتت، كما ماتت من قبلها أدواتُ (الشنفرى) في عزلته حتى عن أصحابه الشعراء الصعاليك، حين أحكِم الرصدُ على آبار المياه ومنابعها من حولهم، وأعملت السيوف على قتل بعضهم ولاذ بعضهم الآخر إلى خباء في حمى أهله، بينما الشنفرى ظل مصاحباً (ثلاثة أصحاب: فؤادٌ مشيّعٌ، وأبيضُ إصليتٌ وصفراءُ عيطلُ).. العزلة الآن ماتت كما ماتت السهامُ والأقواسُ والسيوفُ والقلوبُ المشيّعة. العزلة قد تكون موجودة عند (الأراوي الصُحم) وهي ترود حولك (كأنها عذارى عليهن الملاءُ المذيّلُ) أو يركدن بالآصال حولك كأنك (من العُصم أدفى، ينتحي الكيحَ أعقلُ). فهل تطيق عزلة كتلك – الآن – من دون جهاز كمبيوترك أو هاتفك المحمول؟ طبعاً لا؛ فلا تقل إنك (تعيش عزلة) ما دمتَ عائشاً في هذا العصر، فعش كما تشاءُ، ولا تذكر العزلة إلا كذكرك للموتى، رحم الله عزلة لا يزال بعض عارفيها على قيد الحياة، وكانت بالنسبة لهم من أعظم التجارب التي لم تعد متاحة للأجيال الجديدة.
كأني، وأنا أكتب هذا الكلام، أتذكّر عبارة قرأتها ذات يوم على لوحة فنية، وتعبتُ أبحث عن اسم قائلها ولم أجده، حتى الفنان الذي رسم اللوحة المعبّرة عن قارب وسط الرمال كتب تحته العبارة (عندما انتهيتُ من بناء قاربي، جفَّ النهر) لم يكن يعرف قائلها. أقول: كأني بمن ينوون مؤخراً أن يخوضوا تجربة العزلة يرددون تلك العبارة، فهم عندما وجدوا أن العزلة باتت ممكنة جداً بصحبة جهاز صغير، اكتشفوا أن هذا الجهاز هو قاتل العزلة التي يريدون العيش فيها!
* * *
لي قصيدة طويلة عنوانها (مكاشفات في غرفة المعتزل) نشرت هنا – في الجزيرة – عام 1998 ثم كانت ضمن قصائد ديوان (التداخلات) الصادر عام 1999 حين كانت العزلة تلفظ أنفاسها الأخيرة مع بداية سطوة الإعلام الفضائيّ الذي أمعن فيها قتلاً حتى أصبحت من ذكريات الماضي الآن؛ القصيدة كانت من أربعة مقاطع، ولكل مقطع عنوانه (وقفةٌ أولى، ولادةٌ أخرى، ارتدادُ الرؤيا) أما المقطع الرابع فعنوانه (ضوءٌ ثقيل) سأختم بشيء منه، ففيه شفاءٌ لما لم أستطع معالجته بإتقانٍ الآن:
العينُ مغمضةٌ، وهذا الضوءُ يدخلُ
من فراغاتِ الرموشِ
من صور الخيالِ
ومن براءات التردد في المحالِ
الضوءُ يقتلنا سواداً..
للجيوب السود يهدينا،
ويحرمنا بلاداً...