كانت الصورُ في الخطاب النقدي في المقالات السابقة صوراً محسوسةً: بصرية، وسمعية، وشمية، وذوقية، ولمسية. أما هذه المقالة فهي عن الصورة النفسية، وهي التي يصف فيها المرسِل شعوراً أو سلوكاً نفسياً تجاه أثر أدبي؛ إذ مثّلت الصورة النفسية أو السيكولوجية نمطاً من أنماط الصورة في الخطاب النقدي.
وبما أن النقد العربي كان تأثرياً في مراحله الأولى؛ فإنه يعطي حكمه بناءً على وقْع الأثر الأدبي في نفس الناقد الذي يعبر عن انفعاله تعبيراً ابتكارياً يصبغ نقده صبغة أدبية؛ ولذا جاءت بعض شواهده تصويراً لسلوك الناقد النفسي تجاه شِعر ما، أو تصويراً لحالته النفسية، ووقع الشعر في نفسه، كقول عبدالله بن مصعب: «إن لشعر عمر بن أبي ربيعة لموقعاً في القلب، ومخالطةً للنفس ليسا لغيره، ولو كان شعرٌ يَسحر لكان شعره سِحراً»، فالناقد يصور الحالة النفسية لوقع الشعر في قلبه، ومخالطته لنفسه، إلى حدّ تشبيه هذا الشعر بالسحر. وفي قول الجاحظ عن بيت أبي العتاهية: «انظروا إلى قوله: روائح الجنة في الشباب؛ فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب»، نجد أن معنى الطرب صورة نفسية يصعب وصفها؛ ولهذا اكتفى الجاحظ بذكر معرفة القلوب له، ولم يصفه. ولئن صوّر الجاحظ معنى الطرب وهو حالة من الحالات النفسية، فإن ابن طباطبا صوّر شعوراً قريباً من معنى الطرب، وهو الفرح بالبشرى، يقول: «ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدها استفزازاً لمن يسمعها، الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول فيه قبل استتمامه، وقبل توسط العبارة عنه، والتعريض الخفي الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه. فموقع هذين عند الفهم كموقع البشرى عند صاحبها؛ لثقة الفهم بحلاوة ما يرد عليه من معناهما»، ومن اللافت للنظر هنا أن بعض التشبيهات التي استشهدتُ بها هي من تشبيه المحسوس بالمعقول: تشبيه الشعر بالسحر، وتشبيهه بمعنى الطرب، وتشبيهه بالبشرى. إن كثيراً من الصور النفسية في الخطاب النقدي كانت في سياق التعبير عن وقع الشعر في نفس المتلقي، إلا أن أبا حيان التوحيديَّ حشد كثيراً من الصفات النفسية للإنسان وغيره من ذوات الأرواح ومنحها الكلام، يقول التوحيدي: «فإن الكلام صلفٌ تيّاه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً»، وقد وصف ابن جني بيتاً لأبي العتاهية فقال : «وهذا على نذالة لفظه ...» ، ووصف المتنبي بيتاً لزهير بن أبي سلمى بقوله: «وهذا من أوضع وأرذل لفظ»، كما علّق ابن وكيع على بيت لبشار بقوله: «فهذا عين اللفظ الوضيع»، فهؤلاء النقادُ أعوا الكلامَ صفةَ الصلف، والتيه، والأَرَن، والزهو، والذل، والعز، والنذالة، والوضاعة، والرذالة، وهي صفات نفسية. وفي نصٍّ طريف جمع ابن طباطبا الصورة البصرية والشمية والذوقية والسمعية والنفسية؛ للإمعان في إقناع مخاطَبه بأن للشعر جمالاً يتعالى على التفسير، وهو قوله: «وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها: كمواقع الطعوم المركبة الخفية التركيب، اللذيذة المذاق، وكالأراييح الفائحة المختلفة الطيب والنسيم، وكالنقوش الملونة التقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المطرب المختلف التأليف، وكالـمَلامس اللذيذة الشهية الحس، فهي تلائمه إذا وردت عليه -أعني الأشعار الحسنة للفهم- فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان للبارد الزلال».
من سلسلة هذه المقالات عن الصورة في الخطاب النقدي تجلّى أن الناقد الأدبي العربي كان واعياً تماماً لأثر الصورة في بناء خطابه بناءً جمالياً وعياً لافتاً، وإسهامها في إقناع المخاطب، ويمكن أن نستخلص منها أن على الناقد الأدبي أن يكون خطابه متسماً مصوغاً بلغة أدبية جميلة تقدّم الفكرة تقديماً مشوّقاً مدهشاً، في غير غموض أو تعقيد.
- د. سعود بن سليمان اليوسف