تعد ثنائية الشعر الفصيح والعامي واحدة من أهم الثنائيات المُشكِلة في عصرنا الحاضر بين المختصين والمثقفين, وعلى أن الدرس الأدبي عُني عناية تامة بالشعر الفصيح إلا أنه بالمقابل همّش العامي تهميشا ظاهراً, ولا غرابة في ذلك فالتوجس من أن يُفتح الباب لتجريب نظريات النقد على المقول العامي وارد؛ لأن هذا الأمر يعني أنك تهبه شرعية قد تمنحه صفة رسمية, ومن ثم تُنسى لغة القرآن الكريم المُتعبد بها.
وعلى الرغم من كل هذا التوجس إلا أننا نجد أن الفهم المستعصي حاصل على الرغم من عدم شرعنته واخضاعه لأدوات النقد الحديث.
إذن الشرعنة ليست سبباً في ظل ازدهار الشعر العامي خاصة واعتلائه المنابر الرسمية, وإفادته من الفصيح، على الرغم من أن توجيه الدعوات في الملتقيات الرسمية تكون للمثقفين من شعراء الفصيح فقط, ومن أن المجتمع لا يصنف شعراء العامية ضمن المثقفين, ومن أن معظم المختصين يضعون علامة استفهام واستهجان مبهمة على من يقرض الشعر العامي .
إنّ الثقافة بمفهومها الواسع الذي يشمل العادات والتقاليد واللهجات عند الشعوب يدخل الأدب العامي ضمن الثقافة, وهذا هو سر تطوره ونمائه حتى الآن.
والحقيقة التي لأمراء فيها هي أن الأدب العامي (الشعر تحديداً) هو ابن شرعي للغة العربية وهو في حقيقته لا يكمن ضرره في غير انحراف اللكنة والقياس (العامي المحلي وليس الهجين) وهو في مجمله فصيح رهن لهجة؛فصيح في ألفاظه وأخيلته وطرائقه, بل إن بعض شعراء العامي المخضرمين قد يتفوقون على بعض شعراء الفصيح في عصرنا الحاضر في بعث الألفاظ الفصيحة المندثرة من جديد.
إن الشارع العربي يتفاعل مع الشعر العامي أكثر من تفاعله مع الفصيح, وقد بين أ.د. عبدالله الفيفي أن من الأسباب الداعية إلى ذلك في مجتمعنا خاصة طول قرون الأمية التي مر بها المجتمع, ووجود المجتمع القبلي, والحياة المنغلقة على معطياتها الأليفة البسيطة التي لا تكلف أصحابها ما يتعدى متطلبات العابر اليومي. وهو يرى بأن وراء استسهال العامي تاريخ من الاستسهال اللغوي, وتاريخ بالتمسك بما عليه الآباء والأجداد.
هذه القراءة الدقيقة للحاضر لا يمكن تجاهلها, لكنها أصبحت واقعاً مفروضاً فهل هذا الرواج أتاح للشاعر العامي أن يحظى بلفظة مثقف؟
للشعر العامي ما للشعر الفصيح من أدوات وتقنيات يسهل إخضاعها للدرس النقدي الفصيح بكافة نظرياته؛ذلك لأنه قادر على منح الدهشة على نطاق أوسع؛ لأنه مفهوم من العالم والجاهل, ويستحسنه الصغير والكبير.
لذلك كان ومازال هو الرسالة الشخصية لوصف الحالة اليومية في برامج المحادثات كـ ( الواتساب, والسكايبي, والبيبي أم , , تويتر, فيسبوك...)
هذه الإشكالات البسيطة في حقيقة الأمر لا تعد قضية؛ فاختلاف الأذواق والأفهام سهل في محيط اللغة الواحدة , لذلك ليس جهلا -بل وجه آخر من وجوه الثقافة- أن يصل الشخص العامي إلى فهم صورة جاذبة مفسرا ما خلفها من تأويله الخاص, ويكفيك أن تُعمل محركات البحث عن قائل البيت الشهير:
فيني شموخ البدو وأسلوب الحضر
يعني خليط من الفخر والفخامة
لترى كيف أن انتشاره في المواقع حال دون معرفة قائله بسهولة, بل حتى في معرفة صيغته الأصلية؛ لتصرف الناقلين في صيغة البيت كل بحسب حالته.
نحن أمام حالة ثقافية لم يُجدِ معها التجهيل والتهميش نفعًا, وهي حالة أصيلة في المجتمعات الشرقية خاصة تحتاج إلى مزيد من إمعان النظر, والاعتراف بها كثقافة محلية, لأنها ثروة مجتمعية فيها تاريخ الأوطان وعاداتها وتقاليدها.
إلى هنا نقف, وللحديث بقية - بإذن الله - في العدد القادم.
- د. زكيّة بنت محمّد العتيبي