حتى يرى المثقف ذاته في مرآة الوجود ينبغي أن يبدأ بالتفكير في كونه لا يملك الخلاص؛ ولعله لن يملكه أيضًا، وبتنحية الوثوقية عن تفكير المثقف يمكن لنا أن نجدد الإبداع الفكري والفلسفي؛ فالمثقف يكتب ويُنتج ويُحاضِر لا لأنه يعلم؛ ولكن لأنه يفكر من خلال المعرفة فقط؛ بمعنى أنه يحوّل المعارف التي قرأها واستوعبها إلى مجال تفكيري فلسفي فحسب، فمتى ما ظن المثقف أنه معلم فقد لبس جبة النبوة - وأحيل هنا إلى محاضرة للمفكر عبدالإله بلقزيز في اليوتيوب بعنوان (في الدعوة والدعاة - مقدمات نقدية) -، فالمثقف يفكر وعمله في هذا الوجود شبه المتناقض هو التفكير والتفلسف فحسب؛ ولو أن المثقف سينوّر هذا الجمع البشري لاستنار منذ أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وانتهينا في ذاك الزمان من إشكالات البشر التي لا تنتهي. إن يبدأ المثقف من عدم الوثوقية فهذا يعني أنه بدأ يفكر تفكيرًا فلسفيًا، ولا يعلن هذا تواضعًا منه؛ بل يجعله مبدأ قبل أن يكتب ويفكر؛ فالكتابة والنتاج الفكري كله لأجل التفكير فحسب؛ وكل ما ينتجه المثقفون على اختلاف تياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والفلسفية إنما هو مشاركة في التفكير الجماعي مع البشر جميعًا؛ ولعل هوسرل أكثر مَنْ وعى هذا حينما فتح قوسين لكل الآراء السالفة؛ إنه -في نظري- فَتْحٌ للمثقف - المتفلسف بأن يعد التفكير هو المجال المهم جدًا بالنسبة له؛ وليس مجاله المهم هو تنوير المجتمع؛ لأنه في اللحظة التي يفكر فيها المثقف أنه سينوّر غيره فهذا ادعاء منه بشيئين: الأول أنه هو في نور؛ ويريد أن ينقل هذا النور إلى غيره، والثاني أن غيره في ظلام ويريد هو أن يطمس هذا الظلام ويشعل نوره فيه.
إن منطلقاتي في نقد المثقف هنا ليست منطلقات عَدَمية؛ أو مشاعرية تواكب صرخات (الما بعد - الموت) وإنما هي محاولة تفكير -أيضًا- في هذا المثقف - الرسول الذي يريد أن ينوّر البشرية وهو لم يقرأ كل ما أنتجته هذه البشرية في كل حضاراتها. لذا فإنه يكفيه أن يشارك تفكيره أو نتاج تفكيره مع البشر جميعًا؛ ويكون أحد هذه العقول المفكرة في هذا العدد الضخم من العلوم والمعارف التي ينتجها العقل البشري في مرحلة فيزياء الكم؛ ومبدأ اللايقين عند هايزمبرغ؛ ولا نهائية المعنى لدى دريدا؛ ونسبية آينشتاين عامتها وخاصتها، ومرحلة النانو. قد يكون من المهم جدًا أن يستحضر المثقف المجال العلمي البحت وهو يفكر حتى تخف لديه فلسفة (الإنسان الخارق-السوبرمان) لدى نيتشه، وتتحطم آماله في مركزية الإنسان الذي يفقه كل شيء بعقله المحض كما عند كانط. ولا يمكن لي أن أدعي بأن مهمة المثقف قد انتهت إلا إذا كنت أريد سلطته لأن المثقف لا يزال حاضرًا بتفكيره اللا وثوقي فقط.
- صالح سالم
_ssaleh_ @