حين تغرقني الأيام بعطش الكلمات أعاود قراءة الشعر لتنبت في رأسي كثير من التجليات وأشهد روحانيتي التي تتخاذل أمام قراءاتي وشاعريتي لأنثر من رأسي تغريدات لا تتوقف عند قراءاتي بل تتنافر مع ما قرأت وكأنني أعيش حالة من التلقي ناقدة لذاتها أكثر مما هي ناقدة للمقروء فالقصائد التي كتبت في ظروف ذات أحوال مضطربة تجعلني أسخر من انغماس ذاتيتي بخيباتها الهشة في مقابل خيبات كثيرة بواقعها المأساوي كونها دون وطن ولا مرسى لها ولامستقبل واضح لأجيالها.
إنها تجاربنا التي تجعلنا نرزح تحت غيم وطأتها وتغشانا بضبابية تستفحل في ذواتنا حتى لا نكاد ندرك ما حولنا.
أعتقد أن تأويلاتنا لهمومنا تترسخ بقدر تصوراتنا إزاءها وبمقارنتها بالسائد والأحداث من حولنا نستصغرها فننفيها من أحوالنا ومن كتاباتنا فنهمش تلك التجارب البسيطة التي تنمو على لحمنا الغض شيئا فشيئا حتى تهدم أسوار حواسنا في العمق ونفتقد بذلك الكتمان مدى تذوقنا لخبراتنا التي فصلت لنوازعنا المؤقتة. بالنسبة لي فأنا أحاول أن لا تمر علي تجربة دون استثمار مختبراتها والاختلاط بمحتوياتها حتى تختمر في أعماقي وتلد هواجسي الجديدة وبها أتغير.
هذا التكيف المتخلق ليس على قلة أو كثرة وليس عن ضعف وقوة بل على سليقة وفطرة تعتمد تصوراتها بحسب إحاطتها بما يحصل من حولها وتخوض بذلك تجربتها الشخصية من معاناتها الفردية التي ربما تحررت من واقعها المشحون بالإحباطات والمفاجآت أيضا. لتقفز إلى واقع لا ينتمي إليها إلا بحسها الإنساني العام.
هذا التبادل الإنساني المفعم للأدوار مع الآخرين دليل ارتقاء رفيع في الحس والوعي والتكيف الذي يتجاوز الحدود والمواطنة الخاصة إلى مواطنة شعوبية مشتركة.
ولعل في هذا المقطع من قصيدة (الوشم ) للشاعر محمد الماغوط ما يوجز كثيرا مما أشير إليه : (الآن/ في الساعة الثالثة من القرن العشرين
حيث لا شيء /يفصل جثثَ الموتى عن أحذيةِ المارة/ سوى الإسفلت
سأتكئ في عرضِ الشارع كشيوخ البدو/ ولن أنهض حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين/في العالم/ وتوضع أمامي/ لألوكها كالجمل على قارعة الطريق..حتى تفرَّ كلُّ هراواتِ الشرطة والمتظاهرين
من قبضات أصحابها/ وتعود أغصاناً مزهرة (مرةً أخرى).
إنه الشعر الذي يتجول في قلب الذات دون تطرف. ويحفر في الضمير معناه ورسالته الموجوعة بالحرب والقمع والاحتراق والاحتجاج على الواقع البائس الذي يسترخص دم الإنسان ولحمه في مقابل ماديته البحتة.
وبرغم الجراحات ونزفها فلا نستطيع العيش دون حلم يجسده شاعر مثل محمود درويش:
(سأحلمُ لا لأصلح مركبات الريح , أو عطباً أصاب الروح
فالأسطورةُ اتخذت مكانتها المكيدة, في سياق الواقعيّ
وليس في وسع القصيدةِ أن تُغير ماضياً يمضي و لا يمضي و لا أن توقف الزلزال
لكني سأحلُم , ربما اتسعت بلادٌ لي كما أنا واحدً من أهل هذا البحر.
كفَ عن السُؤال الصعب, من أنا ؟ ههنا ؟ أأنا أبنُ أمي ؟
لا تساورُني الشكوك ولا يُحاصرُني الرعاة ولا الملوك و حاضري كغدي معي,
و معي مُفكرَتي الصغيرة : كُلما حَك السحابةَ طائرٌ دَوَنْت : فَك الحلمُ أجنحتي.
أنا أيضاً أطير فَكُلّ حيٍ طائر . و أنا أنا , لا شيء أخر..)
الحلم أشبه بالأمل وهو الشيء الوحيد الذي في وجه الديكتاتور والقمع والاضطهاد ، إننا نبني بالحلم وبالأمل مدنا حضارية تعيش فيها القيم والإنسانية دون موت حتى وإن تمزقت جسدا فستبقى روحها القادرة لتربي الإرادة التي بها يتغير كل ما في الكون من عتمة هشة لتثقب ظلمتها بالضوء.
- هدى الدغفق