أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الأمثال من الخالق جلَّ جلاله التي ضربها للناس: شرعٌ في نفْسِها؛ وهي منتجةٌ الْمُرادَ الشرعيَّ يقيناً؛ لأنها صادرةٌ عن ذي الكمال المطلق والتَّنَزُّهِ الْمُطْلَقِ؛ فهومُنَزَّهٌ عن الخطإ؛ لحكمته وعلمه وقدرته؛ وهو المنَزَّه عن الكذب؛ لثبوت صفات الكمال له بضرورة العقل وشهادة الشرع؛ فهو شرعٌ معصوم.. والأمثالُ التي يضربها الناسُ ليستْ معصومةً؛ فمنها حقٌّ، ومنها باطل.. وكل الآيات الكريمة عن قدرة الله على بعث الخلق بعد موتهم: اقْترن بضرب مثَلِ من الله سبحانه؛ وهو أنَّ القادر على الخلق أقدرُ على الإعادة؛ والإعادةُ أولى بالقدرة؛ وهي أهون من البْدْإِ.. ونتيجة المثَل أولويةُ القدرة على الإعادة؛ ولا ريب أن الأولوية تقوم على البرهان.
قال أبو عبدالرحمن: ولهذا اضطر الإمامُ ابنُ تيميةَ إلى البرهنة على الأولوية، ولم يكتفِ بقوله في كتابه (درْأُ التعارض) 7/362 مُبَيِّناً أنَّ المستعمل في حق الله قياس الأولى:((مثلُ أنْ يقال:(كل نقص يَتَنَزَّه عنه مخلوق من المخلوقات: فالخالق تعالى أولى بثبات الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه).. ولم يكتف بدعوى الأولية ؛ لأنَّ الأولوية دعوى وليست حجة في نَفْسِها، بل قال عقب ذلك مباشرة مستدلّْاً على دعوى الأولوية بالبرهان:((لأنَّه سبحانه واجب الوجود [؛أي بصفات الكمال]؛ فوجودهُ أكملُ من الوجودِ الممكن من كل وجه.. ولأنَّه مبدع الممكنات وخالِقُها؛ فكل كمال لها فهو منه، وهو مُعْطيه.. والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه: أحقَّ بأنْ يكونَ له الكمال كما يقولون: كل كمال في المعلول فهو العلة )).
قال أبو عبدالرحمن: هذا البرهان قائم على براهين وجود الله بصفات الكمال، واستعمالُه المعلولَ والعلةَ إلزامٌ للخصم بمقتضى قوله؛ فلا يقبل قول المخلوق: (هذا أولى من كذا) إلا ببرهان على الأولوية مع تخلف المانع منها؛ فمن قال مثلاً: (إذا كانت الكفَّارة على القاتل خطأً: فالقاتلُ عمداً أولى)؛ فهاهنا كلُّ ما يحتج به على الأولوية باطل بالنص على كفارة المخطئ، وعدمِ تكليف العامِد بكفارة معيَّنة.. ثم إنَّ دعوى الأولوية منقوضَةٌ بأنَّ المخطِـئ لم يلزمه قَوَدٌ, وشُرع له كفارةٌ عن قتلٍ حدث بسببه المباشر وهو غير قاصد له؛ لأنَّ الأعمال بالنيات.. والعامدُ لا كفارةَ له معينةً إلا بندمه واستسلامه ورضاه بحكم الله في القصاص، وأن يُسَلِّم نفسه لذلك؛ فإنْ عُفي له فكفارته غير معيِّنة إلا بما يلزم التائب من الندم، والعزيمةِ على أن لا يعود، والإقلاع من الذنب بالتوبة، والمسارعةِ إلى فعل الخيرات، والاجتهادِ في العبادة؛ فقد يغفر الله له مع الوعيد الشديد لمن قتل نفساً بغير حق.. وقد يقول مخلوق: (إن إعادة فلانٍ ما صنعه من جهاز قد تَلَفَ: أولى في القدرة من صُنْعِه ابتداءً)!!.. وجوابُ ذلك أنَّ دعوى هذه الأولوية منخرمٌ في المشاهدة؛ فقد يصنع الإنسان جهازاً، ثم يبيد ويتلف مع طول السنين والاستعمال، وقد لا يقدر على إعادته كما هو من مادتِه التالفة، وقد يقدر على صنع مثله.. والأولوية التي هي نتيجة المَثلِ الذي ضربه الله قائمة على براهين القدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، وبراهين أنه الخالق لكل شيءٍ؛ فيلزم من تلك البراهين أنَّ من خلق الإنسان ولم يك شيئاً: قادرٌ على إعادته بعد أن كان شيئاً.. وإلى لقاءٍ في السبت القادِم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.