لماذا تغضب لأتفه الأسباب؟ ولماذا تكتئب لأتفه المشكلات؟ ولماذا تقلق من مواقف لا تستحق القلق؟ ولماذا تشمئز عندما ترى فلاناً وتبتهج عندما ترى فلتاناً؟ إنها أسئلة سهلة لكن إجاباتها تبدو صعبة، لكننا سنوجز الإجابة عنها في سبب واحد: إنها ترجع إلى لعبة الاستعراف cognition.
لعبة الاستعراف هي حقيقة ما يدور بينك وبين نفسك من حوارات وأفكار يومية حول تفسير الأحداث والمشاكل اليومية والمستقبلية والماضية. الاستعراف هو البوابة الرئيسية للعواطف والانفعالات السعيدة والحزينة. الحزن يأتي بعد فكرة، والفرح يأتي بعد فكرة، والخوف يأتي بعد فكرة، وكذا جميع المعاناة النفسية تأتي بعد أفكار. وعلى حسب كيف تُصنع الفكرة تتكون مادة الانفعال، إذ لا يمكن أن تنفعل بدون استعراف ولا يمكن أن تحزن أو تقلق بدون أفكار مسبقة.
تعال مع نفسك وأنت في وضع حزين تجد أن انفعال الحزن سبقه تفكير في شيء يثير الحزن، والحزن لا يأتي بدون سبب كما يشاع بل يأتي بعد تفكير. إن محتوى مادة التفكير هي ما قاد مشاعرك للإحساس بعاطفة الحزن. إن قصر مدة التفكير في المشكلة التي سببت الحزن والكآبة هي ما جعلتك تغفل أن سبب الكآبة جاء من خلال عنصر التفكير أو الاستعراف. إن ثانية واحدة من الاستعراف جديرة بأن تجعلك تشعر بالحزن لساعة كاملة وربما استعراف من نوع آخر يجعلك تشعر بالبهجة لساعات طوال. الحاصل أنك لو أمعنت النظر ملياً في الموقف الذي يثير القلق أو يثير الكآبة فستكتشف أنه سبقها استعراف معين بتذكر حدث ما أو خيالات أو صور لأحداث قمت بتفسيرها بشكل موجع.
إذا اتفقنا على أن سبب الشعور بالانفعال (حزن، غضب، خوف، فرح) هو حدث فسرها العقل بطريقة ما، فإن بوابة لغز الاستعراف قد انفتح أمامك. فبقالب رياضي إن الاستعراف يساوي = حدث + تفسير الحدث. وبقالب غير رياضي يمكن القول بأن الأفكار تسبق المشاعر فكل المشاعر الانفعالية يسبقها تفكير معين، وكما قيل «العقل فوق العاطفة Mind over mood». إذا اتفقنا على هذه النقاط فإن هذا يقودنا للبحث عن موضوع أصعب وهو كيفية كشف تلك الأفكار؟ اسأل نفسك عندما تكون متضايقا أو منزعجا أو غضبان إلى أين يذهب تفكيرك؟ وإلى أين يسرح خيالك؟ وما الموضوع والصور الذهنية التي سبقت الانزعاج. ستجد أنه قد ذهب إلى فتح ملفات استعرافية مزعجة سببت لك مشاعر الانزعاج.
السؤال الصعب الذي لا يمكن إجابته من خلال سطر أو سطرين، هو كيف تستعرف صح ونعدل من خطئنا في الاستعراف. هنا لا بد من جلسة مع مختص في العلاج الاستعرافي فلديه خطة في تنظيم الأفكار وإرشادات تهندس الاستعراف في قوالب منطقية. ربما ستجد صعوبة في بداية الأمر في تنقل الذهن من الأفكار القديمة إلى الأفكار الجديدة لكن هذه المهارة بالعزم والمثابرة ستكتسب من التمرين وتصبح مسألة تلقائية: تذكر تعلمك للغة الإنجليزية أما كنت تجد أنك في البداية تتحدث اللغة بشكل متكلف وعسير ثم ما لبث مع الممارسة أن تتحدث بها بشكل طليق وتلقائي. وهكذا مع التدريب على سجل الأفكار ستجد أنه مع الممارسة سيسهل لديك تصفح السجل وشيئاً سيصبح سجل الأفكار الميزان العادل لموجات التفكير لديك، إذ مع المران سيتكون سلفاً منطقياً من الأفكار يقضي على مشاعر الأحزان والمخاوف.
إنه على الرغم أن الاستعراف هو تفكير، إلا أن الغريب في الأمر أنه لا علاقة له بتفكير الذكي عقلياً وغير الذكي عقلياً. قد يكون شخص منخفض الذكاء يتمتع بقدرة عالية في الاستعراف الإيجابي بشكل يفوق ممن هو عالي الذكاء. وكما قال الأول: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
هناك أفراد يتميزون بذكاء من نوع مختلف عن الذكاء العقلي المشاع وهو ما يسمى بالذكاء الانفعالي أو الاجتماعي، إن من يتمتع بالذكاء الاجتماعي يحسن التكيف ببراعة مع الآخرين ومع المواقف الاجتماعية ويمتلك مهارات اجتماعية تجعل شخصيته جذابة. سبب جاذبيتهم و»ذرابتهم» يرجع ببساطة إلى أنهم يتمتعون بقدرة فائقة على الاستعراف السليم في المواقف الاجتماعية.
قد يدعي شخص قلق أن مشاعر الخوف لديه تتكون دون أن يسبقها تفكير، وقد يجزم في رأيه، ولكي نؤكد عليه ما أسلفنا فلا بد من الإشارة إلى ما يسمى بالأفكار التلقائية Autonomic thoughts وعملية اجترار الأفكار بشيء من التفصيل، ولعله يكون لنا معها وقفة أخرى.
لكن لنختم بهذا الاستعراف الجميل من خلال هذا البيت الجميل:
قل لمن يحمل هماً إن همك لن يدوم
مثلما تفنى السعادة هكذا تفنى الهموم