خالد بن حمد المالك
لم تعد أمريكا هي أمريكا، الدولة العظمى التي تزن مواقفها وقراراتها والتزاماتها بعقلها لا بعاطفتها، وبما لا يلحق الضرر بأصدقائها، ومن ثم بالعالم كله، هي الآن تتعامل مع دول العالم كسيدة بلا ضوابط، ومع قضايا الساعة بجنون، بوصفها خصماً ومناكفاً ومنافساً وعلى طرفي نقيض مع من كان ولا يزال من أقرب دول العالم لها.
**
هي أمريكا، ولكن ليست أمريكا التي عهدناها، ولا الدولة العظمى التي يهرع العالم نحوها، بحثاً عن موقف مسؤول منها، بمساندتها، ودعمها، ومناصرتها، للحق والعدل، ووقوفها لكل ما يرسي أسس الأمن والاستقرار والسلام في كل بقعة على الأرض تثور منها رائحة الفوضى والإرهاب، ممارسة أو تخطيطاً أو دعماً، وويل لمن يفعل ذلك من موقف صارم ينتظره من أمريكا حين كانت.
**
مع ما يحدث الآن من تطورات خطيرة، وحروب دامية، وعالم غير آمن، يأتي الموقف الأمريكي منه كموقف المتفرج أو المستسلم، فهي مترددة، إن لم تكن طرفاً في الأجواء المشحونة بكل المظاهر السيئة التي كانت تحاربها من قبل، ولا تسمح لنفسها بأن تقف منها موقف الصامت، أو غير المبالي، أو أن ينظر إليها وكأنها لا شأن لها بما يحدث.
**
أمريكا التي وقفنا معها، واستوعبنا مواقفها وسياساتها، وعلّمنا أبناءنا في جامعاتها، واستقدمنا الخبراء منها، ووضعنا في مؤسساتها المالية جزءاً كبيراً من احتياطياتنا المالية، وتفاهمنا وتعاونا على تنفيذ مجموعة من المشروعات العملاقة في كل المراحل بإعطاء الأولوية لأمريكا دون غيرها من الدول، هي أمريكا التي تتآمر علينا، وتفصح من خلال تمرير قانون (جاستا) عن مواقف غريبة ومشبوهة منا لم نكن نتوقعها في أي يوم.
**
كنا نعتقد أن أمريكا حليفتنا، وصديقتنا، ومن لا يمكن أن تعطي ظهرها لنا، فنحن من نشتري السلاح منها بمالنا دون منّة أو كرم منها، ونحن من نستورد احتياجاتنا من مصانعها، بأموالنا الحرة التي تسبق تحويلاتنا لأقيامها وصول بضاعتها إلى المملكة، نفعل ذلك ونحن في موقف القوي الذي لا يستجدي عاطفتها، ولا ينتظر كرمها، كما يفعل غيرنا من دول أخرى في منطقتنا وفي العالم.
**
هذه هي أمريكا الجديدة، أمريكا الصادمة في مواقفها، التي تبحث عن سبب واهٍ يديننا ويتهمنا بالإرهاب، عن حالة ترتهن إليها لتقول عنا وتحكم علينا بما لا علاقة لنا به، أو دراية عنه، أو دور كبير أو متوسط أو صغير فيه، وإنما هو من باب الانتقاء الأمريكي الظالم للأقرب والأقوى لإدانته، وأعني بذلك الدولة ذات القرار السيادي المستقل وهي المملكة العربية السعودية.
**
صوّتوا، أو لم يصوّتوا، استخدموا الفيتو أو لم يستخدموه، تبقى المملكة - يا أمريكا- بشعبها، وأرضها، ومقدساتها، وتماسك جبهتها الداخلية، وتلاحم شعبها مع قيادتها، وقوتها الاقتصادية والمالية والسياسية، وتاريخها المشرّف، وعلاقاتها بكل دول العالم، أقوى من أن تتهم بالإرهاب، حتى وإن وجد الأمريكيون في غنانا وثرواتنا، ما يغري للابتزاز، وفتح الشهية لهذا النوع من الاتهامات الباطلة.
**
لا بأس أن يتعلّم العالم ويعرف اليوم، أن أمريكا الآن غيرها بالأمس، وأن يفهم بأن الاعتماد على الذات كما تفعل المملكة هو أقوى سلاح أمام جبروت الدول العظمى، وهو ما تعلمناه من الملك عبدالعزيز، وهو ما سار ويسير على خطاه وسياساته وصبره وحكمته ملوك المملكة واحداً بعد الآخر، فالإدانات حين تكون في غير محلها، هي بلا قيمة لدى دولة كبرى بمواصفات وقياسات المملكة، ولدى أحرار العالم، وآثارها سترتد على من صدرت منه، لا على من صدرت بحقه ظلماً وبهتاناً وابتزازاً.