د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في هذه الأيام نعيش ذكرى الهجرة، ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة برفقة صاحبه، ورفيق دربه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهي ذكرى تذكرنا بالسيرة العطرة له صلى الله عليه وسلم، التي سطرها بفعله الزكي، وكتبتها لنا ابن إسحاق، وابن هشام، وبعض مما جاء بعدهم، وقبل ذلك كله، زخر القرآن الكريم المنزل من رب العالمين، ببعض من صفاته ووقفاته.
هذه الهجرة العظيمة التي أصبحت فيما بعد تاريخًا يحدد به المسلمون الأعوام، وما يحدث فيها من أحداث جسام، ولذا ظلت في ذاكرتنا راسخة رسوخ الصخر على قمة الجبل، لما فيها من العبر، وهي هجرة من بلده مكة المكرمة التي ترعرع فيها، وعاش بها صباه وشبابه، وجزء من عمره بعد أن بلغ أشده.
عد أن بلغ الأربعين، وبعثه الله رحمة للعالمين لم يقبل بعض من قومه بعثه، ولم يؤمنوا ببعثته، فناصبوه العداء، واستمر ذلك أمدًا، ولولا فضل الله، ثم مكانته وحماية عمه له، لجربوا النيل منه، وإن كان ذلك مستحيلاً لأمر إرادة الله، وأدخره لتحقيقه، وقد آذوه في ذهابه وإيابه، وأمام منزله، حتى ذهب إلى الطائف، فرموه بالحجارة حتى أدموا عقبه، ولم يثنه ذلك عن الصبر ومواصلة تبليغ الرسالة العظيمة التي حملها في قلبه، وجسدها في سيرته، بادئًا بنفسه ليضرب مثلاً لغيره في فعل الخير، ومحبته الناس والتأليف بينهم، كما كان في سابق عهده قبل بعثته.
المصطفى صلى الله عليه وسلم، هاجر بعد أن أمره الله بالهجرة، وكلنا يعرف قصته في الغار، ونسج العنكبوت، ولدغ العقرب لصاحبه، وقصة سراقة، وتبشيره إياه بسوار كسرى ملك فارس الذي ناصب الإسلام العداء، فأراد الله سقوط دولته فيما بعد في زمن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي هذه الهجرة كان لكل من خلفائه الراشدين موقف كريم، ومن ذلك منام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في فراش النبي، فاديًا إياه بنفسه.
سار الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم إلى يثرب، التي سُمِّيت فيما بعد بالمدينة المنورة، ووقفت ناقته في المكان الذي أراده الله، بعد أن تنازع ضيافته وتكريمه أهل يثرب محبة ووفاء، وهم أولئك الذين آمنوا به قبل مجيئه إليهم، فكانوا نعم الأنصار الذين وقفوا مع المهاجرين وقفة خالدة عظيمة، حيث تآخى كل واحد منهم مع من هاجر إليهم من أصحاب رسول الله القادمين من مكة المكرمة، وكانت غايتهم رفع راية الإسلام ليقينهم وخالص تصديقهم أن ما جاء به الحق، وأن أمره لا بد له من أن يعلو، ونور الإسلام لا بد له من أن يسمو، كانت قدراتهم محدودة، ومناصريهم قليلين وكانت غزوات بدر وأحد والخندق وتبوك وغيرها، وقد استبسل هؤلاء الرجال في الذود عن حياض الإسلام، والسعي إلى النصح بالحسنى والسيرة العطرة، فهم لا يقتلون امرأة ولا صبيًا، ولا يقطعون شجرة، ولا عودًا طريًا، ولا يقتلون أسيرًا، ولا يحاربون إلا من محاربهم.
سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه سيرة رائعة، كان كواحد منهم في مأكله ومشربه وقوت يومه، لم يحتفظ بدرهم ولا دينار، وكان أغلب أكله الشعير، بالرغم من أنه القادر على أن يعيش عيشة مرفهة لما له من مكانة، وما فتح الله على يديه من أمصار.
كان عالي الهمة، لطيف المعشر، يشاور أصحابه فيما يشكل عليه، ويأخذ برأيهم بما أشاروا به إليه، كحاله في جعل البئر خلفهم في غزوة بدر.
وفي بيته ضرب أروع الأمثال، فكان رقيقًا مع زوجاته حليمًا مع من عاش معه من مساعديه، يعاملهم باللين، حتى إنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قد نهر أحدهم، أو رفع الصوت عليه، فقد جاء بحق ليتمم مكارم الأخلاق التي جبل عليها.
ستظل الهجرة النبوية عالقة في الأذهان، ولو أننا تعلمنا منها لكانت مكانتنا في العالم غير ما نحن فيه.