د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
تواجه قضية التوظيف ظاهرة تكاد تكون مسيطرة في بيئتنا الإدارية. تتمثّل الظاهرة في تأهيل جامعيين وغير جامعيين في تخصّصات مطلوبة من حيث حاجتنا لها؛ ثُمّ حين يتخرجون لا يجدون وظائف تستوعبهم أو مكاناً يواصلون فيه التأهيل الأعلى المطلوب لسد الاحتياج. ولا يتعلّق الأمر بخريجين درسوا في معاهد أو جامعات ولكن غير مؤهلين لسوق العمل، فهؤلاء يحتاجون بالفعل لمدّ جسور من التدريب (التعاوني) تربطهم بسوق العمل. ولا بملء الجامعات بالدارسين في أقسام وتخصّصات تفيض عن حاجة البلاد إليها، فهذا أمر يتعلّق باتجاه التعليم العام وثقافة الركض وراء شهادة البكالوريوس. الذي أعنيه فعلاً هو وجود حاجة حقيقية للتخصّص، إن لم نعرفها إحصائياً فهي معلومة بالضرورة، وأمامنا نموذجان لذلك:
النموذج الأول: خريجو التربية الخاصة
وفق أخبار تناقلتها بعض الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي فإن ممثلين عن خريجي التربية الخاصة اشتكوا لدى وزارة التعليم من عدم توظيفهم، وقيل لهم إن هذا خارج مسؤولية الوزارة لعدم وجود وظائف شاغرة، وأن الوزارة تبحث مع الجهات المختصة إيجاد وسيلة أخرى مناسبة لتعيينهم. إن المسألة الأصلية التي يجب أن ينطلق منها البحث ليست مسؤولية أو عدم مسؤولية جهة عن توظيف مدرسي التربية الخاصة، بل معرفة مدى الاحتياج القائم لهم وخطورة نقصهم. وقد قام برنامج الثامنة الذي يقدّمه الأستاذ داود الشريان - في حلقة الثلاثاء 19-12-1437هـ - بإلقاء الضوء على هذه القضية من جوانب متعدّدة عرضها ضيوف الحلقة، وهم متخصّصون في مجال التربية الخاصة. اتضح من النقاش أن هناك فائضاً من الخرّيجين بدون وظيفة يمارسون فيها تخصّصهم، عددهم يقارب (17000) خريج (!!)، وأن هناك ضرورة قصوى لمضاعفة عدد مدرّسي التربية الخاصة، لأن عدد الذين يقومون بالعمل حالياً في أقسام التربية الفكرية لا يزيد على (4000) مدرس بعضهم - كما ورد في البرنامج - غير متخصّص في التربية الخاصة (!!). أما عدد المحتاجين من الطلاب فتقديره مُبهَم، إذ ورد خلال النقاش الرقم خمسمائة ألف طالب وطالبة - أي 10% من طلاب مختلف مراحل التعليم العام. وهذه النسبة - حتى لو كان مبالغاً فيها - تبيّن مدى فداحة المشكلة، لتأثيرها بعيد المدى على ذوي الحاجة للتربية الخاصة وعلى المجتمع. أليس هذا بكافٍ عند أصحاب القرار لاعتماد الوظائف اللازمة وتوزيعها على سائر مدارس المملكة ذات الكثافة الطلابية، وأيضاً لدعم إنشاء مراكز تربوية - حكومية وأهلية - لتعليم وتأهيل ذوي الإعاقة الذهنية ممّن يحتاجون لتربية خاصة مركزة تكاد تكون معدومة في هذا البلد؟ لا بُدّ من التذكير هنا بأن جهة التوظيف قد لا تلتزم بالتصنيف عند التعيين لسبب أو لآخر، فتعيّن على الوظيفة كل من يحمل مؤهل مدرّس، ممّا يقلّص عدد الوظائف الشاغرة الشحيحة.
النموذج الثاني: خريجو الطب
تقدّم لاختبار القبول في برامج زمالة التخصص الطبي (البورد السعودي) في عام 2015 - حسب تقرير هيئة التخصصات الصحية - (5236) خريجاً من كليات الطب، ولم يقبل منهم إلا(2200) خرّيج. وذلك لأن قلّة مراكز التدريب التي تستوعب أعداداً أكبر بمستشفياتنا، وما ينتج عن ذلك من تنافس قويّ على المقاعد يجعل معايير اجتياز الامتحان صعبة ومرتفعة. ولو تساءل أحد: هل من قلّة في مستشفياتنا أيتها الهيئة - فلدينا الآن (462) مستشفى عام وخاص ثلثها تزيد سعتها على مائتي سرير - ستردّ الهيئة: لا، لكنّ جلّها غير صالح للتدريب التخصّصي. هذا مع الأسف صحيح وقضية مزمنة. فإن مجموع المرافق الصحية التي اعترفت بها الهيئة عام 2015 كمراكز تدريب بلغ مائتين وثلاثين مرفقاً صحياً، منها بضعة مراكز صحية، والمستشفيات ليست كلها سعودية بل منها بضعة مستشفيات في دول مجلس التعاون. كما أن الاعتراف بالمستشفى لا يعنى أن كل أقسامه مؤهّلة لتدريب أطباء الزمالة. فبعضها لا يعترف فيه إلّا بقسم واحد أو اثنين من بين عشرة أقسام أو أكثر. علماً أن المستشفيات تخضع للتقويم من جهتين: المجلس السعودي لاعتماد المنشآت الصحية للتقويم من حيث تطبيق معايير الجودة والسلامة، والجهة الأخرى المختصة وهي الهيئة السعودية للتخصصات الصحية التي ترسل لجاناً متخصّصة لتقويم مدى توافر متطلبات الاعتراف بالمستشفى كمركز تدريب. وتُعِدّ كلٌٌ من هاتين الجهتين تقريراً مفصلا عقب الزيارة عن نواحي القصور والنواقص المطلوب توفيرها، أما كيفية توفيرها فليست مهمة أيٍّ من الجهتين، بل مهمة الجهة المالكة للمستشفى. ومهما بدا من أسباب مالية أو إدارية أو فنية تعيق حصول المستشفيات المقصّرة على الاعتراف بأهليتها للتدريب المتخصّص، فإنّ الواجب الوطني يحتّم إزالة الأسباب وإعطاء الأولوية لاستكمال متطلبات الاعتراف، ما دامت الدولة تنشئ المستشفيات وتعطى الأولوية لتوفير الكفاءات الطبية الوطنية بكل المناطق. إن الحصول على الاعتراف يخدم أكثر من جانب: الأطباء المنتظرين لفرص التخصّص، والمستشفيات التي تستفيد من عمل هؤلاء الأطباء لكونهم يقومون بعمل طبيب مقيم في مدّة التدريب، والمرضى الذين سيحصلون على خدمة طبية أفضل في المستشفيات بعد استكمال نواقصها، والوطن الذي سيستغني إلى حدّ كبير بأبنائه المتخصّصين عن غيرهم من الوافدين، وعن ابتعاث حملة بكالوريوس الطب إلى الخارج للتخصّص. ولأن هذه القضية ليست محصورة بهة مختصة واحدة، فلعل المجلس الصحي السعودي يعالجها كأولوية.
ما أردت قوله من إيراد هذين النموذجين هو أن تعليق مشكلة استيعاب الخريجين قد يتحوّل إلى بؤرة لتوليد مشكلة أكبر إذا لم يوضع حلّها من قِبَل أصحاب القرار ضمن قائمة الأولويات الملحّة. وقد عالجت الدولة من قَبْل مشكلات مماثلة بحلول حاسمة، ولكن لإطفاء أزمات. أمّا التوجه الأمثل فهو وضع حلول دائمة من خلال تقويم أفضل للأولويات، وتخطيط أفضل للموارد البشرية، وتطبيق ملتزم بالأهداف.