«الجزيرة» - محمد المرزوقي:
في ست وعشرين وثلاث مئة صفحة، دون الدكتور أحمد بن عبدالله المالك مذكراته بأسلوب شيّق، وسهل ممتع ممتنع، تناغمت فيه الكلمة مع الصورة، لتقديم مذكرات (بانورامية) عبر ثلاثة أبواب رئيسة، حفل كل منها بعدة فصول، عبر فصول أعوام من مسيرة علمية حافلة، وسيرة عملية فذّة العطاء، جاء تدوينها استجابة بما وصفه المالك قائلا: منذ عملي في وزارة الدفاع، كنت اشعر أن الإنسان لابد أن يأتي يوم يكتب فيه مذكراته، ليتناول فيها أهم محطات حياته، ويسرد من خلال تجربته الحياتية الخاصة، من الجانبين: الإنساني والاجتماعي، أو من الجانبين: العلمي والعملي، لتكون بمثابة شهادة له، يوثق من خلالها مشوار حياته، بما تضمنته من محطات، قابل فيها العديد من الأحداث والمواقف والشخصيات.
ومع هذه القناعة التي كان يدرك المالك كان ولا بدَ أن يحين وقتها، فلم يكن التفكير في رصدها بمعزل عن التروي حينا، والتردد تارة أخرى، إذ يقول صاحب المذكرات: فكّرت أكثر من مرة في البدء بتنفيذ مشروع مذكراتي، لكنني كنت أعود لتأجيله مرة تلو أخرى، إما لانشغالي، أو لشعوري أن هذا المشروع ما يزال يحتاج بلورة وإعداد أكثر؛ وظللت هكذا حتى اقترح عليّ الكثير من الأصدقاء والمحبين أن أبدأ في تنفيذ هذا المشروع قبل أن يتقدم بي العمر؛ ترددت في البداية، لكن مع الوقت قررت أن أستعين بالله، وأبدأ في كتابة هذه المذكرات، فإن استطعت إكمالها في حياتي فذلك ما كنت أبغي، ويمكنني بعد ذلك أن أحدثها بطبعة ثانية، وإن قدر الله - سبحانه وتعالى - ولاستطع إكمالها أو نشرها، كانت بداية مشروع يكمله أبنائي من بعدي.
أما عن السبب الرئيس الذي دفع د. أحمد المالك إلى كتابة هذه المذكرات، فيقول: هو رغبتي في تقديم عروض وسرد تاريخي لمشوار حياتي، منذ ولادتي وحتى كتابة هذه المذكرات، وتقديم دروس مستفادة من خلالها لأبنائي وأحفادي وأفراد أسرتي، حتى إذا ما قرأوا هذه المذكرات ووجدوا فيها قصة كفاح - بإيجابياته وسلبياتها - تستحق تقديرهم وإعجابهم، وكان بإمكانهم أن يتعلموا ويستفيدوا منها.
كما وصف المالك مسؤولية استحضار الكلمة، عبر الإنسان (الذات/ المجتمع) مستحضرا (زمكانية) الحياة، نشأة.. تعليما.. وعملا، قال: لقد وضعت نصب عيني منذ بداية التفكير في كتابة هذه المذكرات أن أكون أمينا في تناولي للأحداث والمواقف والأشخاص، وأن أبتعد في كلامي عن النفاق أو الذم، أو ذكر شخص بما ليس فيه، وحاولت قدر الإمكان التركيز على الإيجابيات في علاقتي بالآخرين، حتى وإن عكر صفوها - أحيانا – بعض السلبيات القليلة التي تحاشيت الحديث عنها، فهذه المذكرة ليست مجالا لتصفية حسابات.. أو لتحقيق مكاسب، وإنما هي أمانة كلمة أتركها للتاريخ.
وبين الهدف من رصد (الكلمة/الحياة) وبين (القارئ/ الأجيال المقبلة) وإسناد الفضل إلى أهله، يؤكد الكاتب هذا البعد، بمنتهى الوعي، ونبوغ التجربة قائلا: هذا ما وفقني الله - سبحانه وتعالى – إليه، فالحكم على ما كتبت متروك لمن سيقرأه، لكني أرجو أن أكون قد وفقت في تقديمه بأمانة، وأن أكون دائما عند حسن ظن أسرتي وعائلتي وأحبابي من أصدقاء وزملاء.. وإذا كان لأحد آخر فضل عليّ بعد الله - عز وجل – فهو وطني الكبير المملكة العربية السعودية، فكل ما حققته يرجع الفضل فيه إلى الوطن، فكل دراستي في جميع مراحلها كانت على نفقة الحكومة، بالإضافة إلى الابتعاث والدورات والتدريب في الخارج، فالوطن له حق كبير عليّ لا استطيع أن إغفاله أو إنكاره، وقد حرصت بكل جهدي على أن أرد لوطني بعض جميله من خلال رحلة عملي الطويلة في خدمته وخدمة مصالحه سواء في وزارة الدفاع أم في مؤسسة النقد.
وعن المنهج الذي انتهجه المالك في سرد مذكراته على (مستوى الكتابة) فوصفه بقوله: أرجو أن يسامحني كل من أهدرت حقه أو تجاهلته دون قصد في هذه المذكرات، وليعلم وليتأكد أن هذا إن حدث فهو من غير عمد، وأنه محسوب على أخطاء البشر، أما (على مستوى الحياة) فقال: أعتقد أنني حرصت طوال حياتي على ألا أخطئ في حق أحد، أو أن أسيء إلى أحد، وإذا حدث شيء قد يفهم منه ذلك خطأ، فإنما كان في إطار المنافسة الطبيعية والغيرة المهنية في الدراسة أو العمل، لكني بكل تأكيد لم أقصد يوما توجيه أي إساءة أو أي أذى لأحد، فعلاقتي مع الآخرين كانت طيبة، سواء مع أقربائي أو أصدقائي، أم مع رؤسائي في العمل أم من عملوا معي.
وقد جاء القسم الأول من الكتاب بعنوان: «حكاية المكان والزمان والناس» متضمنا فصلين: الأول منهما وسمه المالك بعنوان: «الرس».. موطن النشأة.. وحنين الصبا؛ فيما جاء الفصل الآخر من هذا الباب بعنوان: (العائلة والأسرة.. رفقاء الرحلة) لينتقل المؤلف في سرد مذكراته إلى مرحلة أخرى تمثلت في ا لقسم الثاني من المذكرات، الذي حمل عنوان: «بين كتاتيب الرس وجامعات أمريكا» دوّن الكاتب مسيرته العلمية خلالها في أربعة فصول، جعل أولها بعنوان: الكتّاب وحلم الجامعة.
أما الفصل الثاني فقد جاء بمثابة استهلال لعتبات الحياة العملية، إذ عنونه المالك بـ»الملازم في مصر» ليلحق به ثالث فصول هذا القسم بعنوان:»في أمريكا: أول دكتوراه لمواطن من الرس» مختتما ثاني أقسام الكتاب بفصل رابع جعل المؤلف عنوانه: «استراحة محارب»؛ ليستمر مسير مذكرات المالك (العملية) عبر القسم الثالث - الأخير - من أقسام الكتاب، الذي تضمن ثلاثة فصول، وسم صاحب المذكرات أولها بعنوان: «في وزارة الدفاع.. هارب من المدرسة العسكرية برتبة عميد» لينتقل المالك في ثاني فصول هذا القسم إلى مرحلة عملية أخرى جاءت عنوانا لهذا الفصل عن: «في مؤسسة النقد.. خمسة عشر عاما في أجواء الاقتصاد؛وصولا إلى آخر فصول هذا القسم من الكتاب الذي يحكي مرحلة عملية أخرى بعنوان: «العمل الخاص.. قدرة العطاء بعد التقاعد».
ومع أن الحياة العملية خاصة أشبه ما تكون بتضاريس الحياة، وأيامها كأشجار الطبيعة المختلفة بطبائع البشر.. إلا أن القارئ لن يجد في مذكرات المالك سوى حديقة من الزهور المتناغمة في جمال ألوانها.. وعبق أريجها، ليقدم لنا مذكرات كتبها الوعي، وسردها نبوغ التجربة، لتكون دروسا مستفادة وشهادة على الحياة وتحولاتها بأسلوب سيريّ مداده الوعي بالكتابة.