في السابع عشر من جمادى الأولى عام 1351 من هجرة نبي الرحمة، أصدر الملك عبدالعزيز القرار 2716، فيه تغيير اسم مملكة الحجاز إلى المملكة العربية السعودية، وتغيير وجه الوطن إلى الأبد.. وكانت فحوى الخطاب كلمات تشع نورًا، وتفيض لها الدموع تصديقًا: (أن الله سبحانه وتعالى قد خص هذه البلاد بين شقيقاتها الأقطار العربية، فكانت أشرف صقعًا وأوسع رقعة، وأعز نفرًا، وأظهر استقلالًا وسؤددًا، وأقدر على مواجهة الملمات والكوارث، وأسبق إلى الغايات والمصالح، ووهب أهلها مزايا لم تكن لسواهم فجاؤوا عنصرًا عربيًا، واحدًا في أصله، واحدًا في عاداته وتقاليده، واحدًا في دينه وإسلامه، واحدًا في تاريخه.. ففي البلاد بأجمعها ما يوحدها ويجعلها وحدة كاملة ويجعل أهلها أمة واحدة، لا فرق بين من أتهم منهم ومن أنجد، ومن أحجز وأيمن.
كان القرار خطرًا، يعني تأسيس مملكة سعودية حقيقية، تعاهد فيها أبناء المؤسس على أن يكونوا سورًا يحمي إخوانهم المواطنين. الأهل فيه ترس يصدّ النفوس الضعيفة، ومرضى القلوب.
منذ تلك اللحظة الفارقة في عمر المملكة، وهي تضفِّر خصال الخير، وتسرع الخطو إلى مكان كانت ينتظرها طويلًا؛ دولة زراعية صناعية تجارية تعتمد العلم والتعليم، وترفع من مكانة المرأة، تنحاز إلى بُعْدَيْها العربي والإسلامي.. وتطرد الغزاة من أرض لم تكن لهم يومًا، ولن يكون (بفضل الله) لهم فيها شبر يومًا.
منذ تلك اللحظة والمملكة في تيار الصعود لا تعبأ بمن يتكلمون.. تحصِّن الحلم العربي، ولو حاول خطفه المتعصبون والخونة، وترفع راية (لا إله إلا الله) مزدانة بسيف يجرح بصر الحاسدين.!
وها نحن بعد 86 عامًا.. نرى المرسوم وقد أثمر واقعًا، وتشكَّل جغرافيا وتاريخًا، وأضحى العَرَقَ المبذول ندى يتلألأ تحت شعاع الصباح، ويسقي الأرض فتخرج خيرها وكنوزها، فارتفع شأن الدين في الدنيا، واطمأنَّ السعوديُّ إلى رزقه، وتعليم أبنائه، وعلاج أمراضه وتسكين أوجاعه.. فنام مقرور العين، وزاد الإنتاج وكثر الخير، وتحقق وعد الرحمن: (لئن شكرتم لأزيدنكم).
ها نحن بعد 86 عامًا، نسترجع تاريخًا كتبته أيادٍ ثابتة، استشرفت المستقبل فصنعت حاضرًا تفوح منه رائحة الطيبة العربية، والنخوة العربية، والشهامة العربية. نرى المرأة وقد توسدت كرسي الشورى، وتأنثت لها المحال التجارية، وتقلدت وسام العالمية، ورأست قاعات الاجتماعات، ومدرّجات الجامعة، وخطبت في نوادي الأدب، وتفرّست في بوادي الكتابة. سيدة أعمال ناجحة، ومربية متفوقة، وعالمة حبريرة، وأستاذة معجزة.
ها نحن بعد 86 عامًا، نرى العلم راكضًا إلى أهدافه لا أهدافنا، والإخلاص دأب الأبناء، والنظام ديدنهم، والضرب على يد التطرف والإرهاب شعارهم.. رأيناهم وقد تحوَّلوا إلى ترس في مواجهة العدو، وضرس في مجابهة الأزمات.. أين المؤسس فيرى كيف هو مسير سلمان الخير، وإلامَ صارت العروس في حضرته؟!.
86 عامًا ليست كثيرًا في عمر الأمم، لكنها كانت كافية لأن تكتنفها المملكة، فتصنع نظامًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا على نموذج الإسلام، أبهر العالم، وأبطل حجج المشككين، وأرغم الغرب على الانصياع لهذا الدين، والسعي وراء قيمه، فأنشأت المصارف الغربية فرع المعاملات الإسلامية، وزادت المساجد، وانتصر التوحيد.
86 عامًا دخلت فيها المملكة في مجموعة العشرين، جالت في مجلس الأمن، حفظت أروقة الأمم المتحدة، وسُمع صداها في المحافل الدولية، والمنتديات العالمية، لا يُبرم أمر دونها، ولا يوضع قرار دون موافقتها.. تستشيرها الدول العظمى، وتشيد بتجربتها وتقلِّدها.. والمملكة في خضم ذلك لا تضحك وتبتسم وترضى بالإشادات التي تنهال، وإنما تنخرط في العمل الجادّ، والجهد المتواصل، طموحها ما زال بعيدًا والإهاب أملد، والعزم عزم فتيّ.
86 بيعة صادقة، وبسمة خالصة، لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ذاكرة المملكة، والناقد الفذّ، صاحب الحزم والعزم، العربي.. العربي حقًّا.. الذي حمى المظلوم، ونصر الأخ، ورفع راية الحلم والعقل، مدّ يد السلام، وضرب على موطن الشقاق فالتأم! الملك الذي جاء في ظرف مختلف، ومياه آسنة ومضطربة، دول العالم العربي (دون استثناء) تئنّ تحت وطأة تدخلات فارسية، وأيادٍ صهيونية، ومشاريع غربية توسعية واستعمارية، واضطرابات وحروب أهلية، وتقسيمات أيديولوجية ومذهبية.. وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
نظر إلى مصر نظرةَ شُمُولٍ فاحتواها، ورفعَ اليدَ إلى اليمن فتحطَّمَتْ المطامع، وصنع من الخليج خليجًا موحدًا على شفا خُطْوَة واحدة من ارتباط يضاهي أوروبا ويغيظ الأميركيتين.. ولا ينسى المغرب، أو يُسْقِط السودان..! علّمنا سلمان الخير أنه ليس بالشعار وحده تنتصر الأمم، وإنما بمحتوى الشعار وصدقيته.. هكذا فَهِمْنا أن:
بلاد العرب أوطاني
وكل العرب إخواني
86 عامًا والعالم يخرج من أزمة اقتصاد لمنحدر مالي، والنفط ينهار، والأزمات تتسع، والمملكة ترفض أن تمد يدها إلى الاحتياطي النقدي، تعبر المرحلة بخبرة دليل الصحراء الذي يفهم التفافات الرمال، وتعرجات الجبال، كان ذلك الدليل هو محمد بن سلمان الفارس العاقل، شاب برصانة الحكماء، وبحنان الأب والأخ معًا.
تحياتنا على قدر هيبة يومنا الوطني المجيد لخادم الحرمين أطال الله عمره، وأثمرت له الدنيا والآخرة معًا.. ولولي العهد الأمين بارك الله له في عمله، وشكر له جهده.. ولولي ولي العهد الأمين؛ الحلم والأمل وتطلعات شعب ألقى على كاهله مسؤولياته، ولشعب المملكة العربية السعودية كافة.
كان القرار 2716، يعني التأسيس والتحدي، واليوم نحتفل بأننا كنا على قدر هذا التحدي.. ونقول: هذا ما صار بعد 86 عامًا فقط، ما الحال بعد ألف ألف 86 أخرى؟!.
د. فايزة بنت صالح الحمادي - وكيلة جامعة الملك فيصل لشؤون الطالبات بالأحساء