فضل بن سعد البوعينين
للمرة الثانية على التوالي؛ وخلال فترة زمنية قصيرة؛ تتدخل مؤسسة النقد العربي السعودي لدعم السيولة وضخ أكثر من 20 مليار ريال كودائع زمنية في القطاع المصرفي؛ وتأخير آجال استحقاق اتفاقيات إعادة الشراء؛ وذاك ضمن سياساتها الرامية إلى دعم الاستقرار المالي المحلي. تدخلت «ساما» مطلع العام الحالي لرفع نسبة القروض إلى الودائع من 85 في المائة إلى 90 في المائة بعد استشعارها متغيرات سيولة القطاع؛ ثم تدخلت مرة أخرى في الربع الثاني من العام نفسه وضخت ودائع إضافية لدعم سيولة البنوك. تعمل ساما بكفاءة عالية ضمن أدواتها المتاحة؛ لتحقيق الاستقرار المالي وحماية القطاع المصرفي؛ ومساندته لدعم الاقتصاد من خلال توفير التمويل اللازم وفق اشتراطاته المنضبطة. قد تكون «ساما» ضمن المؤسسات الحكومية القليلة التي تعتمد الرؤية التحليلية الاستباقية وفق استراتيجية دقيقة ما يجعلها قادرة على اتخاذ القرارات الصائبة في وقتها وقبل تفاقم الأمور؛ إلا أن تعقيدات الاقتصاد وتشابك خيوطه؛ وتعدد المؤثرين فيه، يجعلها غير قادرة على إحداث الأثر الشمولي المأمول؛ ما يحد من أثر تدخلاتها الاستراتيجية المهمة؛ لا لضعفها؛ بل لإحجام الجهات المؤثرة الأخرى عن الدخول في خطة حكومية شاملة تهدف إلى إنهاء أزمة سيولة الاقتصاد الخانقة.
جاء تدخل «ساما» الأخير بالرغم من انخفاض نسبة القروض إلى الودائع في القطاع المصرفي عن 85 في المائة؛ ما يعني انخفاضها عن السقف الجديد المحدد بـ 90 في المائة؛ ما يؤكد سلامة وضع البنوك وقدرتها على الإقراض بسهولة؛ ويؤكد أيضًا أهمية الجهود الاستباقية التي تتخذها ضمن الأدوات المتاحة لها. سيبقى أثر خطوات «ساما» المتلاحقة مرتبطًا بدعم سيولة القطاع المصرفي ولكن ماذا عن سيولة الاقتصاد بشكل عام؟. تعزيز قدرة القطاع المصرفي على الإقراض؛ قد لا يسهم في نمو حجم الائتمان المحلي مع بقاء المؤثرات الأخرى على وضعها الحالي ما يستوجب قيام الحكومة ممثلة في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بوضع خطة شاملة لتعزيز سيولة الاقتصاد؛ وإدارة التدفقات النقدية بطريقة احترافية تسهم في المرور من عنق الزجاجة الذي بات يتمدد بشكل مؤلم برغم وجود أدوات العلاج السريع. وقف طرح السندات المحلية؛ والاستعاضة عنها بالسندات الدولية؛ الاستفادة من الاحتياطيات المالية؛ صرف المستحقات بعيدًا عن بيروقراطية الوزارات والإدارات الحكومية؛ ربط الاستدانة بالمشروعات الاستراتيجية الكبرى بدلاً من الحكومة وطرحها في الأسواق العالمية وبما يضمن استمرار عجلة التنمية وضخ سيولة في السوق وتوليد فرص أكبر لقطاع الأعمال من الحلول العاجلة والإيجابية.
أصبحت المملكة؛ كالتاجر المليء الذي تسببت متغيرات السيولة في التشكيك بقدراته المالية؛ وأضعف من قدرته على المعالجة. تشير بعض البيانات الدولية إلى احتلال الاقتصاد السعودي المركز الرابع كأكبر اقتصاد عالمي في إجمالي الأصول الاحتياطية التي قدرت بـ 587 مليار دولار أمريكي؛ واحتلاله المرتبة الرابعة عالميًا كأقل الاقتصاديات في نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي؛ وأقل دول مجموعة العشرين في نسبة الدين العام. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الاحتياطيات النفطية الضخمة والمعادن المتنوعة التي لم تستثمر بعد والمقومات الاقتصادية الأخرى تصبح الصورة أكثر إشراقًا وتفاؤلاً. وعلى الرغم من كل تلك المقومات نجد مؤشر الثقة في الاقتصاد السعودي عند أدنى مستوياتها؛ وهو أمر ربما ارتبط بالإدارة المعلوماتية لوضع الاقتصاد وتطوراته والخطط والبرامج المؤثرة فيه على المديين المتوسط والبعيد؛ إضافة إلى تدني كفاءة إدارة التدفقات النقدية في الاقتصاد التي خلقت الأزمة برغم توفر الملاءة المالية. يمكن أن تظهر الإدارة الكفؤة للتدفقات النقدية المفلسة، بصورة المليء المستحق لثقة الجميع؛ في الوقت الذي تتسبب فيه ضعف الإدارة في نزعها من المليء ودفعه للإفلاس؛ والعياذ بالله.
تعزيز الثقة في الاقتصاد من أهم الأمور التي ربما غفل عنها البعض؛ وما يحدث اليوم من شائعات مغرضة؛ وتعامل غير نزيه مع بيانات السيولة؛ واستغلالها للتشكيك في قدرة الاقتصاد وتحفيز رجال المال على تحويل أموالهم للخارج؛ أو تحولهم عن الريال السعودي؛ هو نتاج تجاهلنا لعنصر الثقة وآلية تعزيزها بطريقة احترافية بعيدة كل البعد عن البيانات الصحفية. أزعم أن استخدام «ساما» لأدواتها المتاحة وضخها ودائع في القطاع المصرفي هي جزء من منظومة تعزيز الثقة العملية التي تستوجب تناغمًا حكوميًا على جميع المستويات.
أختم بقصة تاجر اللؤلؤ الخليجي الذي حمل معه محصوله من اللؤلؤ إلى الهند؛ وفي رحلة السفر البحرية؛ وخلال وجبة الغداء عرض التاجر محصوله على باقي التجار في مزايدة قبل وصولهم الهند؛ إلا أنهم لم يتفقوا على سعر؛ فأبقى (صرة) اللؤلؤ على سفرة الطعام وذهب لغسل يديه؛ وبعد عودته تفاجأ بقيام خادمه بإلقاء محتوى السفرة في عرض البحر وتنظيفها دون أن يعلم بوجود (صرة) اللؤلؤ بها. تفاجأ التاجر بما فعله الخادم؛ فهدأ من روعه؛ وأمره ألا ينطق بكلمة واحدة حول ما فعل؛ وأن يجعل ذلك سرًا بينهم وهدده بأغلظ العقوبات إن أفشى سره. وبعد أن تناولوا الشاي طرح التاجر المكلوم سعرًا لشراء محصول زملائه من اللؤلؤ؛ ورفع السعر بطريقة مغرية تحملهم على البيع؛ شريطة أن يكون تسليم الثمن في الهند بعد بيع محصوله ومحصولهم؛ وهو أمر اعتاد عليه التجار. فوافقوا جميعًا واشترى محصولهم؛ وبعد دخولهم ميناء «مومباي» تهافت تجار الهند عليهم للشراء بحسب العادة؛ كل تاجر يذهب لعميله من تجار الخليج فيعيده إلى زميلهم الذي اشترى منهم المحصول؛ ما جعله متحكمًا في سعر البيع الذي ذُكِرَ أنه بلغ أربعة أضعاف سعر الشراء بسبب احتكاره الكمية؛ ما عوض عليه خسارة محصوله؛ وأجزل له الأرباح. العبرة في القصة؛ أن تاجر اللؤلؤ بات مفلسًا بعد فقدانه محصوله؛ وعلى الرغم من إفلاسه نجح في شراء مجمل اللؤلؤ الموجود في أيدي جميع التجار؛ ولو كُشِف أمره لما غامر زملاؤه ببيعه محصولهم الثمين.
هناك من يصنع الثقة من العدم؛ وهناك من يتسبب في فقدانها برغم بنائها الشامخ وقواعدها الراسخة. متى فُقِدت الثقة اهتز عرش الاقتصاد وإن كان مشيدًا على قواعد صلبة؛ ما يستوجب العمل على محورين رئيسين الأول تعزيز الثقة بالاقتصاد وهذا لا يمكن أن يتم إلا وفق برامج محترفة وخطوات محددة؛ وشفافية مطلقة ببرامج الحكومة المزمع تطبيقها مستقبلاً. أما المحور الثاني فهو مرتبط بشكل مباشر في الخطوات العملية لإصلاح الاقتصاد وإدارة السيولة في الاقتصاد؛ ومعالجة نقصها المتسبب في أغلبية الانعكاسات السلبية التي نشهدها اليوم.