م. خالد إبراهيم الحجي
إن أغلبية الخبراء يجمعون على أن البحث والتطوير يمثل العمود الفقري للاقتصاديات الحديثة المبنية على التقدم المعرفي والتنافسية. والاستثمار في مجال البحث والتطوير مصدر دعم لتطوير المنتجات المختلفة والخدمات المتعددة التي تحرك وتدفع عجلة النمو الاقتصادي، وتخلق فرص العمل وتحسن مستوى المعيشة والرفاهية الوطنية. وفرصة الدول النامية لتضييق المسافة بينها وبين الدول المتطورة للحاق بها تتضاءل مع مرور الزمن؛ لأن الدول المتطورة تزيد باستمرار من استثمارات القطاع الخاص والعام وتنويع مصادر الدخل في مجالات البحث والتطوير بوتيرة متزايدة، الذي يجعل الحصة العالمية لاستثمارات الدول النامية في مجالات البحث والتطوير في انحدار مستمر بسبب ركود تلك الدول، وعجزها عن البحث والتطوير وتنويع مصادر الدخل الوطني؛ وبالتالي تظهر الحاجة الماسة إلى أدوات تحفيز القطاع الخاص، لتشجيع الاستثمار في مجالات البحث والتطوير من خلال السياسات التي تضعها الحكومات لهذا الغرض، ليصبح قادرًا على الاستفادة من نتائج البحث العلمي لتطبيق أو استغلال ما وصل إليه من ابتكارات وتحويلها إلى مشروعات تجارية مجزية. ويؤكد الخبراء العالميون أن صُنَّاع سياسات البحث والتطوير يجب أن يفعلوا المزيد، ويأتوا بكل جديد لمساعدة ودعم الابتكارات والاختراعات من خلال المحاذاة والتراصف مع السياسات الأخرى المتصلة بالتعليم، ونظام حماية براءة الابتكار، ونظام منح الجنسية للمبتكرين.. والبحث العلمي والتطوير يشمل نشاطات ثلاثة: البحوث الأساسية، والبحوث التطبيقية، والتطوير الذي يمثل ثلثي الأنشطة تقريبًا، وباقي الأنشطة مناصفة بين الأساسية والتطبيقية. والبحوث العلمية الأساسية ليس لها أهداف تجارية مباشرة. وإنما تُركز على توضيح وتأكيد النظريات التي تفسر طبيعة العالم الذي نعيش فيه وكيفية الاستفادة منها. وعلى الرغم من أن كثيرًا من مشروعات البحث والتطوير لا تحقق نتائج مباشرة أو سريعة إلا أن نجاح البعض منها يحقق فوائد هائلة للمجتمع. وهذه المكاسب والمنافع المجتمعية تأتي من التطور والتقدم في المعرفة عن طريق البحوث الأساسية التي يكون لها تطبيقات تجارية واسعة في نهاية المطاف. وبدون رعاية حقيقية، وإشراف ومساندة ودعم مالي من الدولة (القطاع العام) لن يستطيع القطاع الخاص إنتاج أنواع عديدة من البحوث الأساسية التي تعتبر في النهاية هي المصدر الرئيس لمعظم الابتكارات الحديثة. وفيأغلب الأحيان تستغرق دورة البحث العلمي والتطوير مدة طويلة؛ لأن البحوث الأساسية أعمال نظرية لا تظهر تطبيقاتها العملية الملموسة على أرض الواقع مباشرة في نفس الوقت لتلبي الحاجات البشرية، وهنا يأتي دور البحوث التطبيقية التي تقوم بترجمة البحوث النظرية إلى تطبيقات عملية ملموسة على أرض الواقع؛ تتمثل في إيجاد الحلول الناجحة للمشكلات المختلفة لتحقيق الأهداف التجارية التي تعود بالمنافع على الناس والفوائد على المجتمعات.. والاقتصاد الحديث يعتمد على القيادة والريادة في مجال المعلومات والمعرفة؛ وحيث إن البحوث الأساسية والتطبيقية تنتج المعرفة لذلك على المملكة أن تزيد من الإنفاق على البحث العلمي والتطوير ليعكس حصة مناسبة من إجمالي ناتجها المحلي.
وبناءً على عدد السكان وحجم الاقتصاد تأتي الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم على رأس الدول الأكثر إنفاقًا على مجالات البحث والتطوير، وهو تقييم مضلل، والصحيح حساب الإنفاق كنسبة من إجمالي الناتج المحلي؛ وتحتل إسرائيل العدو الأول للعرب المركز الأول بين العشر دول الأكثر إنفاقًا في العالم على مجالات البحث العلمي والتطوير كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، وفيما يلي ما يوضح ترتيب الدول العشر من الإنفاق بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي:
وفي المملكة، بشكل عام، تتركز نشاطات البحث والتطوير في القطاع العام الذي تمثله مراكز البحوث التابعة للجامعات ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، ومخرجات هذه المراكز يمكن تحسينها لتمثل حصة معتبرة من إجمالي الناتج المحلي من خلال تخفيض العوائق، وتقليل الحواجز الوطنية للتعاون والتآزر العلمي بين مراكز الأبحاث السعودية والدولية.. ومن المنظور الدولي يعتبر التجنيس مسارًا سريعًا وخصبًا للدول الغنية لاستقطاب الباحثين والعلماء والمكتشفين والمخترعين؛ لأن جزءًا كبيرًا من البحث العلمي يعتمد على المساهمات والمشاركات العلمية التي يقدمها مهندسون وعلماء أجانب، سواء الذين يريدون الإقامة لمدة محددةٍ أو الباحثون عن الهجرة الدائمة.. وخلافًا للفكرة السائدة أن استقدام الأجانب الماهرين من الباحثين والعلماء والخبراء سيأخذون مكان الكفاءات الوطنية، ويحلون محلها في سوق العمل المحلي، إلا أن هذه الفكرة لا تنطبق على مجالات البحث العلمي والتطوير التي تتسع وتقبل التنافس العالمي، واستقدام باحثين ماهرين وعلماء وخبراء غير سعوديين للعمل في مجالات البحث العلمي والتطوير سيضيف إلى سوق العمل خدمات ومنتجات مبتكرة؛ وبالتالي سيزيد فرص العمل للمواطنين ويحسن من الإنتاجية ويعكس المكاسب المحققة من التعاون والتفاعل، ومن التطوير المستمر للباحثين في المجالات الفنية والتقنية.. وأهم معوقات البحث العلمي والتطوير في المملكة عدم وجود طرق دقيقة لقياس نشاطات البحث العلمي والتطوير، وحساب رأس المال المستثمر غير الملموس في مشروعات البحث العلمي والتطوير، وربما نستطيع الترويج لثقافة الابتكار إذا استطعنا وضع معايير دقيقة لقياسها، وربط وتوثيق أهميتها بالنمو الاقتصادي، أو الاستعانة بالمصادر الخارجية (أجنبية أو وطنية أو مختلطة) بإسناد مجالات البحث العلمي والتطوير والابتكار إليها.