د.عبد الرحمن الحبيب
يتفق أغلبنا على أن انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وتوافر المعلومات للجميع في الإنترنت وكثرة قنوات الإعلام والتلفزة يفترض أن يؤدي لمزيد من تفهُّم وجهات نظر الآخرين المختلفين، لكن للأسف كافة الدراسات المسحية تقول العكس: زاد حجم التنافر بين المختلفين.. لماذا؟
في السابق كانت القنوات محدودة تلتقي بها الأفكار المختلفة، الآن العدد هائل من الخيارات فيختار الأفراد المواقع التي تتشابه مع قناعتهم وتعكس وجهات نظرهم، والابتعاد عما يمثل وجهات نظر المخالفين، فتزداد صعوبة التواصل مع المختلفين عنهم فكرياً، وعلى هذا النحو فإنه كلما زادت كمية المعلومات التي تصلك، زاد شعورك بالطمأنينة أنك على حق والآخرون على باطل.
هنا يزداد ترسيخ كل مجموعة لأفكارها ونبذها أفكار المجموعات الأخرى، ومن ثم ازدراء أفكار الآخرين الذين يبدون غير أخلاقيين أو شواذ أو أغبياء أو كسالى كما وجد عالم النفس مات موتيل (جامعة إلينويز) في استطلاع على ما يزيد على مليون مواطن أمريكي.
تقول الدراسة إن البحث في الإنترنت بات أمراً شخصياً، أي صار أقل ترجيحاً أن يتعرض الناس لمعلومات جديدة تناقض نظرتهم العامة، وصارت الاختلافات الإيديولوجية تنتقل أكثر من الاتفاقات بين المجموعات المختلفة (بي بي سي).
الناس عادة يتكتلون في مجموعات وحشود، وتويتر أظهر أنه أكثر المواقع إغراء لتكتل الحشود حسبما ذكرت دراسة على مستوى دول العالم لمركز بيو للأبحاث (2014) بعنوان «رسم خرائط شبكات تويتر». كشفت الدراسة أنه إذا كان الموضوع سياسيا، فالشائع أن يأخذ شكل حشدين قطبيين منفصلين بحدة، لا يتفاعلان مع بعضهما ولا يرتبطان إلا عبر اتصال ضعيف جداً، رغم أنهما يتناولان نفس الموضوع. المشاركون في كل مجموعة منفصلون عن المجموعة الأخرى، ويعتمدون على مصادر معلومات مختلفة عن بعضهما. تقول الدراسة: «حشود الاستقطاب على تويتر لا يتناقشون. إنهم يتجاهلون بعضهم البعض..»
داخل مركز كل حشد يوجد قادة للمناقشة، هم أناس مشاهير يتم الرد عليهم ونقل تغريداتهم على نطاق واسع. أما أهم المؤثرين في شبكات تويتر فأطلق عليهم «المحاور» و»الجسور». المحاور هم أولئك الذين يرتبطون ويستقبلون وصلات أكثر بكثير من معظم مستخدمي تويتر الآخرين؛ وتحددهم خرائط الشبكة في مركز حشدهم، فهم بارزون لأن أتباعهم يعيدون تغريداتهم ويكررون ما يكتبونه. أما الجسور فهم الذين لديهم صلات تعبر حدود المجموعات، ويؤدون دوراً مهماً في تمرير المعلومات من مجموعة إلى أخرى، ونشاطهم مؤثر لإحداث رسالة تكون لها شعبية واسعة بالنت.
في استطلاع آخر لمركز بيو للأبحاث (2016) على مستوى أمريكا، وجد أن أكثر من نصفهم يعتقدون أن الأطراف المعارضة لهم «منغلقة في تفكيرها»، بينما يقتنع 40 في المئة منهم أن مؤيدي الحزب المنافس يختلفون عن بقية الأمريكيين بأنهم «كسالى»، و»غير صادقين»، و»غير أخلاقيين». أحد التفسيرات لذلك يكمن فيما يسمى «تأثير الاستقطاب الجماعي»، فمناقشة وجهات النظر مع الأصدقاء ليست الطريقة المثلى لإظهار العيوب في التفكير، وكذلك سماع وجهات نظر مشابهة لنفس آرائك لن تفيدك، ولكن تفيدك الآراء البديلة.
جيسكا كيتنغ، عالمة النفس بجامعة كولورادو قامت بتجارب من بينها تجربة على مجموعات متشابهة التفكير، ووجدت أنه «إذا وضعت مجموعة من الناس المتشابهين فكرياً في غرفة، فإنَّ مواقفهم تصبح بشكل عام أكثر تطرفاً» (بي بي سي). التفسير المرجح هو أن توافر معلومات جديدة مع أناس متشابهي التفكير يعرضنا لترسيخ قناعاتنا بما نحمله من وجهات نظر. أو ربما يكون السبب هو محاولة الحصول على رضا وقبول المجموعة التي يوجد الشخص معها.
هنا يحذر لي روس، أستاذ علم النفس الاجتماعي (جامعة ستانفورد) من «وهم الموضوعية» الذي يعاني منه أغلبنا ويقود للأخطر: «وهم الأفكار المتساوية» أي الاعتقاد بأنني أفهم وجهات نظر الآخرين أفضل مما يفهمون هم وجهات نظري، بل وأفضل مما يفهم الآخرون وجهات نظرهم أنفسهم، فلا حاجة للاستماع لوجهات نظر الآخرين، فهي مفهومة سلفاً. وأخيراً نصل إلى «وهم الإجماع»، أي كل شخص سوي عليه أن يتفق معي إذا عرف ما أعرفه، وإلا فهو: مخادع، مكابر، منحاز، بليد التفكير، غريب الأطوار.. الخ
ماذا يعني كل ذلك؟ نحن أمام ظاهرة عالمية توضح الطبيعة البشرية التي تكشفها وسائل التواصل الاجتماعي على نحو قاس عبر المحادثات السياسية وما لها من أثر أبعد مدى خارج هذه الوسائل: إنه الحشد الاستقطابي بين مجموعتين من الناس داخل كل حالة سياسية، هما غالباً منفصلتان رغم أنهما تتحدثان بنفس الموضوع ولكن بطرق فهم مختلفة ومصادر معلومات مختلفة، ورسائلهما توجه لذات المجموعة دون توجيهها للمجموعة الأخرى إلا عبر فئة محايدة خارجة عنهما أو فئة ضئيلة من معتدلي كل مجموعة، لكن لا يلتفت لاعتدالها إلا قلَّة من المشاركين.. فالحالة الراهنة صارت استقطابية شرسة، المحايد فيها متهم!
كيف يواجه المرء تحيزه؟ تقول الدراسات النفسية: سيظل للمرء آراء منحازة مهما بلغ ذكاؤه أو مستوى تعليمه، لكن التحلي بالفضول وحب الاستطلاع والبحث عن الجديد من المعلومات والأفكار والآراء قد يساعد على أن يبلور الإِنسان مواقف أكثر حكمة وحيادية.