محمد الدبيسي
وسأمثل لذلك, بوقفات سريعة مع أربعة نماذج من ذلك الإنتاج, وهي:
أولا : (الرائد في علم الفرائض).. وهو أول مؤلفاته, وصدر عام1380هـ, عن دار الفكر في دمشق. وطبع عشر مرات. وهو في فرع دقيق من فروع الفقه الإسلامي, خاض الخطراوي غماره فتياً لم يبلغ التاسعة والعشرين من عمره, ولم يحز حينها من الشهادات غير ليسانس الشريعة. وبعد إصدار الكتاب, حصل على بكالوريوس في اللغة العربية, وآخر في التاريخ. وكان الكتاب مرجعاً في هذا العلم في المحاكم الشرعية, ومقرراً ومرجعاً دراسياً في عديد من الجامعات. وهكذا أوتي الفتى قدرة التأليف في فنِّ فقهي دقيق, لا يلمُّ به إلا الراسخون العارفون, لما يقتضيه من دراية بالفقه وأصوله, والشريعة ومقاصدها وحدودها, والحساب ومسائله وتفصيلاته, وعلوم التفسير والقرآن الكريم. وأظن ذلك يعليه في سلَّم العلم الشرعي, ويشي بشخصية علمية فريدة, وإن شئتم: عبقرية كأنها ذلك الشيخ الجليل الخطراوي.
ثانيا: (شعراء من أرض عبقر)..وصدر في جزأين عن نادي المدينة المنورة الأدبي عام 1399هـ, وهو من كلاسيكيات النقد الأدبي في أدبنا الوطني, ومراجعه الأصيلة, والنادرة, يوم كان شحيحاً وعزيزاً ما يعين الباحثين والقراء على مجرد التعرف على شاعر سعودي, أو تكوين تصور شامل أو جزئي عنه.
وكان الكتاب في الأصل؛ برنامجاً إذاعياً أسبوعياً أعده الخطراوي وقدمه عبر الإذاعة السعودية/إذاعة الرياض بدءاً من منتصف عام 1395هـ..إلى منتصف العام الذي يليه 1396هـ. ولقي البرنامج حينها قبولاً ومتابعة من جمهرة المستمعين والأدباء. ووافى صدى طيباً, وصيتاً وشهرة واسعين, و من ثمَّ طالب الأدباءُ الخطراوي بجمعه وإصداره في كتاب, لنفاسة مادته, ولحاجة القراء وتعطشهم لمثله آنذاك. كما يذكر الباحث الدكتور عبدالله الحيدري.
ويقدم الكتاب نُبذاً موجزة عن ثلاثة وعشرين شاعراً.. من الشعراء السعوديين, من مختلف المناطق والاتجاهات والأجيال. وتحتوي كل نبذة.. على ترجمة يسيرة مقتضبة عن كل شاعر, ثم الولوج في عالمه الشعري؛ بذكر الاتجاه الفني, أو الغرض الذي برع فيه, واستصحاب نماذج شعرية نصية من إنتاجه, يبرز المؤلف ما فيها من دلالات عامة, أو سمات فنية وجمالية. وقد قدَّم الخطراوي لكتابه واعياً بمسئولية الكتابة وحساسيتها, ومتوافراً على منهجية التأليف, ومدركاً المسافة بين حديث أثيري يتلقاه السامعون عبر المذياع. فيبقي منه ما يبقى, ويذهب ما يذهب.. وبين كتاب مسطور بين دفتين, يبقى.. ويُطالع قراءة.. ويُراجع ويُتأمل, وتُفحص محتوياته وتُقيَّم, وتُقدَّر قيمته, فقال في مقدمته: (ليس هذا الكتاب من الكتب الشاملة المتقصية لحياة الشعراء الذين ضمهم بين دفتيه, أو الدراسة لجميع ما كتبوه من أشعار, وليس هو من كتب التراجم أيضا, فإن ذلك يستدعي الكتابة المتأنية, والدراسة الطويلة المتريثة, وهو جهد لا تتسع له البرامج الإذاعية, ولا يفي به التقديم المحكوم بزمان أو مكان). ثم ساق الدافع الذي نحا به إلى تقديم البرنامج, وإصدار الكتاب, فقال:( إحساسي بأن الشعراء في هذه الديار, لم تتح لهم الفرصة التي أتيحت لنظرائهم في البلاد العربية الأخرى, من الشهرة والذيوع, ولم تتهيأ لهم الظروف التي تُحسن تقديمهم إلى جمهور القراء؛ تقديماً يقربهم من نفوسهم, ويجلِّي محاسنهم, مع أن إنتاجهم في الحقيقة قد لا تقل قيمته الفنية؛ عن مستوى إنتاج أولئك النظراء.. فرأيت من واجبي أن أنهض بجزء من هذه المهمة, في محاولة لتغطية هذا النقص..).ولكم كان وفياً لمنهجه في ذلك, ملتزماً بما أوجبه على نفسه.. معرَّفاً بالشعراءِ للمستمعين والقراء, ومذيعاً ومُشهراً إنتاجهم بين الناس, وكم سدَّ كتابه نقصاً كبيراً في المكتبة الوطنية حينها, في ذلك الجانب الذي عُني به. موفياً المعرفة شرطها, والمنهج النقدي الانطباعي مقتضياته. ولذلك فإن هذا الكتاب؛ يظل شاهداَّ على مرحلة من مراحل النقد الأدبي في بلادنا. ومُختبَراً لذائقة تلك الحقبة, ومَعرِضاً للشعراء.. وظلَّ وحده ولفترة طويلة, بُعيد إصداره؛ مرجعاً مهماً في مجاله وطروحاته.