الاحتساب لغة وممارسة ليس مقصوراً على الفئات المتدينة في المجتمعات، بل إنه يعد ظاهرة مصاحبة لكل حراك إنساني يتعاطاه البشر بين مد القبول وجزر الرفض .
والوسط الثقافي مثله مثل أي وسط إنساني يموج بالكثير من المتغيِّرات فيؤثّر ويتأثر بالسائد من أحداث، فعند القبول يطرب المنتسبون لهذا الوسط لكل جمل الإشادات والثناءات المختلفة، وعند الرفض أو الصدام يشكل صحويو هذا الوسط بعقلائهم ودهمائهم موجات من ردود الأفعال كلها تصب في خانة الاحتساب للفكرة ورموزها!
تاريخ الوسط الثقافي بانساقه المختلفة يزخر بالكثير من الصحوات والتي جاءت كما قيل ويقال بعد غفوات ظلامية سادت المجتمع حيناً من الدهر، فالماركسية صحوة، والقومية صحوة، والحداثة صحوة، والليبرالية صحوة، وكتابة الرواية بشكلها الفج صحوة! والتحولات الفكرية في جلّها أسلوب من أساليب الانعتاق من قديم سئم والولوج إلى جديد يشاع أن فيه الخير للإنسان والمجتمع.
هذه الصحوات الثقافية أو الفكرية أفرزت لنا أفكاراً ورموزاً وحراكات، فالرمز ينتج الأفكار ومعها الصحويون الصغار وهم المخولون بالمهام الاحتسابية الثقافية لكل جديد ينعتق من النسق السائد الذي ما زال ينتجه الرموز الكبار سدنة الثقافة والكلمة في هذا الوسط.
هؤلاء الصحويون المثقفون أو المحتسبون هم وقود الصراعات الفكرية هم الذين تشكلهم فكرة التوجس، يجمعهم الحشد الإلكتروني من وراء أزرار لوحات المفاتيح وتفرقهم صيحات وردود أفعال المجتمع برموزه الآخرين وعوامهم المجبولين فطرة على سائد يعتقدونه عاشوا به وتربوا عليه . هذا النوع من التترس خلف الأزرار والأقلام أفرز لنا نسخاً كربونية من المثقفين، صحويون بمعنى الحراك لا يؤمنون بالاختلاف ولا بالتعددية، الحرية عندهم هي أقصى ما يستطيعون ممارسته من فوضى، وحرية الرأي لديهم هي أن تقول ما يعجبني أنا فقط . المثقف المحتسب عندنا مشلول التفكير فنهجه في التعاطي مع الأحداث يرسمه له سادن كبير ويجعله أسيراً له، والمصالح الشخصية الضيقة تجعله عند اللزوم لا يرى، لا يسمع، لا يتكلم .
هذا الصنف من الثقافة أو المثقفين لا يمثّلنا وليس مصدراً لأي رؤية أو فكرة تتحدث عنا كمجتمع له ثوابته وتاريخه ومستقبله، هؤلاء على الأكثر مجرد نهايات طرفية لفعل متعد قادر على صنع الظرف، وفاعل مستتر تقدّره التجربة والخبرة وأهل الرأي الغيورين على قيمهم ووطنهم وثوابتهم.
بعض هؤلاء المثقفين وأركز (البعض) في محيطنا الحياتي لم ينشأ مستقلاً ولن يكون كذلك طالما ظل سقف تطلعاته الوصول إلى مظاهر مادية خداعة والانعزال في برج عاجي ينظر من خلاله لأقرانه فقط بعيداً عن المجتمع ومسؤوليات الانتماء إليه.
هناك مثقفون شرفاء نجلهم ونحترمهم ولا نبخصهم حقهم، وهناك أشباه مثقفين عالة على الوسط الثقافي، حالهم في الحياة كسعلة تبتاع إيجاراً منتهياً بالتمليك لمصلحة من يدفع أكثر وأدوم.
- علي المطوع