تمركزَ المثقفُ العربي حول الذات والآخر/الغرب منذ مطلع القرن التاسع عشر في مرحلة (النهضة) العربية، وصار الفكر العربي حينها مرتبطًا بثنائية فكرية انقسم المثقفون العرب حولها إلى قسمين: منغمس بالآخر، ورافض للآخر حتى طلع علينا الإصلاحيون أو المثقفون الدينيون الذين حاولوا المواءمة بين (الأصالة والمعاصرة) أو بين (الحداثة والتقليد)، ومنذ ذلك الحين وثنائية الذات والآخر مسيطرة بشكل تام على الفكر العربي لم يسطع الانفكاك عنها .
وقد يفرض الفكر الغربي هذه الثنائية باعتباره فكرًا منتجًا وخصوصًا في القرن التاسع عشر وهو القرن الذي انبعثت فيه كبريات النظريات الغربية الحديثة كالداروينية والماركسية والفرويدية وغيرها، وطُبعت فيه العلوم بطابع ابستيمولوجي مقنن لضبط العلوم وتدقيق منهجياتها، لذا فإننا لا نلفي هاته المركزية الثنائية في الفكر العربي القديم عند ابن رشد - مثلًا- وغيره من فلاسفة العرب بل إنهم اعتبروها مرحلة فكرية من مراحل الفكر التطورية التي قضاها الدهر على الفكر الإنساني .
ولم ينفك المفكرون العرب عن هذه الثنائية حتى عند نقدها أو عند محاولة فهمها والتنظير لها، ونلحظ هذا منذ عبدالله العروي 1967م في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة حينما أورد فصلًا عن الذات العربية و الآخر، وتساءل عن إمكانية عزل الفكر العربي عن الآخر؛ وهشام شرابي في كتابه المثقفون العرب والغرب 1981م عندما قسم المثقفون العرب إلى أقسام ثلاثة باعتبار علاقتهم بالفكر الغربي رفضًا و قبولًا؛ ومحمد عابد الجابري 1995م في كتابه المثقفون في الحضارة العربية من خلال اهتمامه بتبيئة المصطلحات الغربية، حتى علي حرب في كتابه أوهام النخبة أو نقد المثقف من خلال نقده لوهمي الهوية والحداثة، وحتى عبدالإله بلقزيز في كتابه نهاية الداعية عند تحليله للفوبياء الثقافية، وكذلك امتدت هذه الثنائية إلى جميع التيارات الإسلامية كالشيعة عند علي شريعتي ونبذه للآخر باعتباره مسيطرًا على المثقف العربي؛ و عند زكي الميلاد بمحاولاته لاستبدال مصطلح المثقف بالعالِم لأن مصطلح العالِم هو مصطلح شرعي يوائم ثقافتنا العربية والإسلامية .
إذن نحن نقبع تحت وطأة مركزية ثنائية حجّمت الفكر العربي وجعلته في دائرة لا يمكن أن يبدع إلا في داخلها، وجعلت الفكر العربي مربوطًا على أرجوحة تميله نحو الرفض تارة ونحو القبول تارة أخرى دون أدنى تفكير خارجها. و منبع هذا الإشكال هو اعتبار الفكر الغربي موازيًا للفكر العربي وليس خطوة من خطوات الفكر الإنساني؛ بمعنى أن الفكر الإنساني العالمي يعطي لكل الحضارات نصيبها من التقدم والقدوة للحضارات الأخرى لذا فإن الفكر الغربي الحالي هو إحدى خطوات الفكر الإنساني، وتموقعه في هذا الموقع المتقدم إنما هو درجة من درجات الفكر العالمي الكلي، والفكر العربي هو درجة من درجات الفكر العالمي أيضاً، وبالتالي فهما أبناء فكر عالمي واحد يطوره الإنسان الذي هو أداة للفكر العالمي الإنساني، وتبقى تفاصيل هذا الفكر موطن تلاقح وتطوير .
وبما أن الفكر العربي أو المثقف العربي منغمس في هاته الثنائية التي طمست معالم إبداعه فإن المنهج التفكيكي هو خير دليل لتشريح ونقض هذه الثنائية، وهو المنهج الكفيل بزحزحتها عن سلطتها على المثقف العربي، وهو الكفيل بمنح المثقف العربي بحبوحة فكرية يستطيع من خلالها أن يجد له دورًا في الفكر العالمي الإنساني، ودون تفكيك هاته الثنائية فإننا لا نزال نعيد ونكرر ذواتنا بطرق مختلفة و بمناهج متعددة .
- صالح بن سالم
_ssaleh_ @