28 - ولم يكن الإنصاف والإقرار والإجلال والاعتقاد بفضل العربية وقوّتها وتميّزها مجردَ عاطفة أو اعتقاد متوارث تشبّعت به نفوس العرب أو الفرس المستعربين، فثمة علماء أوربيون مستشرقون كُثُر نشأوا في محاريب البحث العلمي في عصر النهضة الغربية الحديث أتيحت لهم الفرصة للوقوف على حال العربية وعرفوا من أسرارها وخصائصها ما عرفوه فشهدوا به، ولهم أقوال مختلفة تضع العربية في مكانها اللائق بها بين اللغات. ومن أولئك: جرمانوس، ويوهان فك، وبروكلمان، وجورج سارتون، وأوجست فشر، وجاك بيرك، ووليم مرسيه، ولويس ماسينيون، وتيودور نولدكه، وكارلو نلينو وزغريد هونكه، وفان ديك، وفرنباغ، وفيلا سبازا، وجوستاف جرونيباوم، وألفريد غيوم، ورجس بلاشير، وغيرهم.. وأذكر في الفقرات الآتية بعض أقوالهم دون مراعاة للتسلسل الزمني لسنوات وفاتهم:
29 - يقول الإسباني (فيلا سبازا): اللغة العربية من أغنى لغات العالم بل هي أرقى من لغات أوروبا؛ لتضمّنها كل أدوات التعبير في أصولها، في حين أن الفرنسية والإنقليزية والإيطالية وسواها قد تحدّرت من لغات ميّتة، ولا تزال حتى الآن تعالج رِمَم تلك اللغات لتأخذ من دمائها ما تحتاج إليه.
30 - ويقول المستشرق الألماني (كارل بروكلمان): بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدًى لا تكاد تعرفه أيُّ لغةٍ أخرى من لغات الدنيا.
31 - ويرى المستشرق الأمريكي (فان ديك) أن العربية أكثر لغات الأرض امتيازاً، وأن هذا الامتياز يأتي من وجهين: الأول: من حيث ثروة معجمها، والثاني: من حيث استيعابها آدابها.
32 - ويقول المستشرق الألماني (الدكتور فرنباغ): ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألفوه حجاباً لا يتبين ما وراءه إلا بصعوبة.
33 - ويذكر المستشرق المجري (عبدالكريم جرمانوس) عنصرين مهمين يرجع إليهما الفضل في عظمة العربية وبقائها حيّة فتيّة رغم تقادم العصور؛ الأول الإسلام وفيه سندٌ مهمٌّ للعربية، أبقى على روعتها وخلودها، فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة... والعنصر الثاني الذي أبقى على اللغة العربية -كما يقول جرمانوس- هو مرونتها التي لا تبارى، فالألماني المعاصر مثلا لا يستطيع أن يفهم كلمة واحدة من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كتبت في الجاهلية قبل الإسلام.
34 - ويرى المستشرق الإيطالي (كارلو نلينو) أن اللغة العربية تفوق سائر اللغات رونقا وغنى، وأن اللسان يعجز عن وصف محاسنها.
35 - ويقول المستشرق النمساوي (جوستاف جرونيباوم): وما من لغة تستطيع أن تُطاول اللغة العربية في شرفها، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان، أما السّعّة فالأمر فيها واضح، ومن يتتبّع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعتُهُ لغة تضاهي اللغة العربية، ويضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات، إضافة إلى الدّقّة ووجازة التعبير، وتمتاز لغة العرب بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإنما بها من كنايات ومجازات واستعارات ما يرفعها كثيرا فوق كل لغة بشرية أخرى، ولها خصائص جمة في الأسلوب والنحو مما ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، ويُبَيّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثل أجنبي أقصر في جميع الحالات.
36 - إن هذه الشهادات التي قيلت في مناسبات مختلفة لهؤلاء المستشرقين الذين ينتسبون إلى أقطار أوروبية مختلفة لتعطي مع تنوعها مؤشرا على حقيقة المكانة المرموقة للعربية عند عارفيها من غير أهلها ممن يجيد أكثر من لغة تعينه على الموازنة، وإن أقوالهم وآراءهم وأحكامهم لتستحق النظر والاحترام؛ لسمعتهم العلمية ومكانتهم.
وفي المقالات التالية لهذا المقال سندخل إلى حرم العربية البهيّ، لنقف على أبرز خصائصها وأسرارها في صرفها ونحوها ومعجمها وبلاغتها، لتكون شاهدة على نفسها. (يتبع)
- د. عبدالرزاق الصاعدي