على عتبة الخريف أقف عند الباب الذي تركه آب مواربًا في أسبوعه الأخير (الذي يفتح للشتاء بابا) كما تقول أمي. تتأرجح هشاشتي على نقاط أحرف اسمي الكثيرة، تثير قليلاً من الغبار الذهبي بلون النخالة التي كانت أمي تضعها مع حليها كي لا تسودّ. جاء أيلول حاملاً حساسية من غبار الطلع، حساسية من حياة أخرى، تفكر بالبدء في مكان ما حولي، وأفكر أنا بالخروج من هذه الحلقة التي تحيط بعنقي مثل طوق حيوان أليف!
على طرف المقعد أترك مظاريف كثيرة لرسائل أفكر في كتابتها وأعجز. ينتابني شيء من الخرس أداويه بالنوم، أو بالأرق، بالكتابة أو بالمحو، بالبكاء أو بالضحك، بهستيريا تنتهي بما يشبه البكاء! أخرج أقلامي الكثيرة، ولا أختار سوى الأزرق، لون الستائر الفاتحة للغرفة القديمة التي صار لي بعدها ثلاث غرف أُخَر، ولم تكن ستارة أي منها فاتحة؛ كلها كانت بألوان الخريف ودرجاته. على الطرف الآخر من الطاولة أترك علبة حلوى، ذهبية هي الأخرى بلون أيلول، وباقة ورد لم أجلبها من بائع الزهور بعد، وبطاقة أفكر في رسمها، وسنوات كثيرة لردمها في حفرة تحت بلاط الغرفة. سأقيم حفلاً خطابيًّا للنمل الذي لم يعد يقاسمني فتات الحلوى، ولم يعد يقيم معي حفل تأبين لنملة مسحوقة بين طيات كتاب.. للخرائط التي لم تعد تعنيني لأني أعرف مسبقًا أن لا أرض ترحب بي، وأيقنت أننا «سنذوي مثل زبيب تحت الشمس» كما تنبأ هيوز، لأقلام التلوين التي تركت أغطيتها مفتوحة؛ فجفت أو بهتت ألوانها، لبطاقات الهاتف القديمة وتذاكر معرض الكتاب الأخير، للورقة التي كتب عليها رقم الهاتف القديم بقلم بنفسجي يذكرني بدفاتري في الصف الحادي عشر، لقائمة الأدوية وإيصالات البريد، لحياتي السابقة.. سأقيم حفلاً للوداع، لا يسمح فيه باصطحاب المناديل الورقية سريعة الذوبان، ويسمح فقط بالمناديل المطرزة بالأحرف الأولى والقبعات الطويلة كما يليق بحفل رسمي.
الساعة 4:10 مساء، متأخرة بساعة عن التوقيت الذي يحبه كلاوديو (3:10 بقايا القهوة، بينيديتي)، وبعد ساعة من النصف الأول لحبة الضغط بعيار 80/ 12.5، وما زال هنالك ثماني ساعات قبل موعد سندريلا (12:00ص)، وأربع ساعات وعشرون دقيقة قبل موعد النشرة الرئيسية على التلفزيون السوري، وأربع عشرة ساعة على مجيء الحافلة المدرسية قبل ستة وعشرين عامًا، وثلاث ساعات على موعد القهوة الداكنة التي تترك في أكوابنا قلوبًا منشورة على حبل غسيل، هل تبادلنا الحب أم تتنبأ بخيباتنا الكثيفة؟! أبلل أصابعي لأستطيع عد ما تبقى من ساعات، مثلما أفعل حين أعد الأوراق النقدية وأفشل في الحالتين، ولا يبقى لي سوى طعم النقود المشبعة بعطر رجالي ودخان سجائر. أحدهم وضعها في جيبه قرب قلبه، أعني النقود لا الساعات. أرفع الشراشف لأغسلها بدورة تدوم 52 دقيقة، هذه ساعة خديجة! الآن أحسب الساعات التي يحتاج إليها شرشفي كي يجف. سآخذ غفوة حتى تمر كل هذه الساعات، وحتى يفتح الخريف الباب متسعًا ليدخل بـ»الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك»!
- بثينة الإبراهيم