اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
يقول الشاعر فؤاد شاكر، مخاطباً الملك عبد العزيز، مؤكداً أنه لا يعرف في الملوك نِدّاً له، مشيراً إلى سمعته التي عمَّت العالم كله:
لحظت فيك عبقرية فذٍّ
ما له اليوم في الأناسي نٍدُّ
قد طوى المشرقين ذكرك حتى
جاوز المغربين، في الأفق يعدو
ويقول الشاعر أحمد إبراهيم الغزَّاوي في المعنى نفسه:
مليك حكاه المزن بشرى ونقمة
عزيز على كر الدهر نظائره
ويقول الشاعر سليم أبو الإقبال اليعقوبي، الذي له شعر كثير في الملك عبد العزيز، مشيراً إلى عبقرية المؤسس و ألمعيته وذكائه:
عبقريٌّ، و ما رأيت حصيفاً
مثله في آرائه عبقريّاً
ألمعيُّ، وليس للملك في العرب
سوى من يسوسه ألمعيا
ويضيف اليعقوبي في قصيدة أخرى:
ملك من عباقر الكون مذ كان
ومن صفوة الملوك الصيد
ويرى اليعقوبي في القصيدة نفسها أن عبد العزيز هو بيت قصيد الملوك وسعد سعودهم:
إن يقولوا ليَّ الملوك قصيد
قلت عبدالعزيز بيت القصيد
أو يقولوا: هم النجوم صعوداً
قلت عبد العزيز سعد السعود
ويقول الشاعر الفذ، أحمد إبراهيم الغزَّاوي، الذي يعجبني شعره كثيراً، خاصة الذي أنشده في الملك عبد العزيز، مع قدرته على تطويع الشِّعر، إلاَّ أنه يعترف في تواضع العلماء، أنه لن يستطيع وصف محاسن عبد العزيز، مهما انقادت إليه القوافي:
و لئن بلغت بك السماء فإنما
أنت العظيم و وصفك المتعذر
مضيفاً في قصيدة أخرى، ملتمساً العذر لتقصير شعره عن بلوغ مراده في مدح عبد العزيز، مهما أجاد الوصف:
ومهما أطلت الوصف فيه فإنني
على العجز مضطر و إن هو غافره
فهل من عذير حين يرتج مقولي
قصوراً و لمَّا يبلغ الشوط شاكره
و يقول الغزَّاوي أيضاً في قصيدة أخرى، معبراً عن حيرته في وصف عبد العزيز، مع بلاغة شعره الرصين:
ومن لست أدري كيف أبلغ وصفه
وقد جاوزت في كل أفق مفاخره
ثم يعود الغزَّاوي، كأنه يحدِّث نفسه، لمعرفة السبب الذي جعل شعره عاجزاً عن وصف عبد العزيز، مع اجتهاده:
ولا غرو، فهو التالد الطارف الذي
غذَّته نمير المجد طفلاً حرائره
ويقول الشاعر محمد بن إبراهيم المراكشي، موافقاً أولئك الشعراء الأفذاذ في عدم قدرة القوافي، مهما أبدع أصحابها على وصف عبد العزيز:
أيا ملكاً والملك أدنى صفاته
وكبرى صفات المدح في حقه صغرى
إلى أن يقول في القصيدة نفسها، مؤكداً أن كل ما في الدنيا من شعر جزل، يعجز حقاً عن وصف محاسن عبد العزيز:
وكيف يعد الشعر منك محاسناً
و لو أنني أفنيت في مدحك الشعرا
ويقول الشاعر أحمد أبو النجا، وكأنه يرد هنا على تساؤلات أولئك الشعراء، التي جعلت شعرهم قاصراً عن بلوغ غايته في تصوير صفات الرجل الصالح عبد العزيز آل سعود:
مليك له في كل يوم مآثر
إلى صحف الأبرار تعزى وتنتمي
ثم يأتي المراكشي، معتذراً عن عجز تلك القوافي في وصف عبد العزيز:
وعفواً أيا مولاي أن كنت عاجزاً
على حصر ما الأرقام أعجزها حصرا
والحقيقة، كثيرون هم أولئك الشعراء الأفذاذ الذين عاصروا الملك عبد العزيز، أو عاشوا قريباً منه، فأَسرتهم أخلاقه، وأدهشتهم عبقريته، وسحرتهم بطولته، وأذهلهم ذكاؤه، فشهدوا له بالصدق والإخلاص في جمع صف العرب والمسلمين، وتسخير كل ما استطاع من جهد لخدمة الحرمين الشريفين، وتأمين الخائفين، وردع المعتدين، ونشر الخير بين العالمين؛ فتمنوا لو كانوا شعراء كحبيب، أو كتاباً كعبد الحميد، ليملؤا الوجود شعراً ونثراً، حتى يوفوا الرجل الكبير عبد العزيز آل سعود حقه، كما أكد الشاعر سليم اليعقوبي:
آه لو كنت شاعر كحبيب
أو فتىً كاتباً كعبد الحميد
لملأت الوجود شعراً ونثراً
فيك، أو ينقضي هناك وجود
بل يذهب الغزَّاوي بعيداً، فيسخر من الشعر الذي يظن نفسه قادراً على التعبير عن كل شيء في الوجود:
زعم الشعر ضلة واختيالاً
أن ما مافي الوجود في قافياته
فرية زخرف الغرور سداها
فادعاها ولج في نعراته
أنت بعض الوجود مابال شعري
حاسر الطرف دونه في شداته
إلى أن يقول:
يتحرى البيان منك اعتذاراً
في ترانيمه وفي نفثاته
صحيح، صدق أولئك الشعراء الأفذاذ المخلصين، يصعب كثيراً، إن لم يكن يستحيل تماماً، أن نحيط بتاريخ رجل صالح كبير، قائد فذ، وبطل همام، ساهم بقدر وافر في إعادة صياغة تاريخ الجزيرة العربية، بل تجاوزت جهوده الطيبة المباركة الصادقة، الجزيرة العربية، لتترك بصمتها اليوم مطبوعة في كل شبر في العالم.
وأذكر أنني تشرفت قبل عامين بتأليف كتاب عن (الجوانب الشخصية في حياة المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود)، بذلت فيه جهد المقل كما يقولون، غير أنني لم أستطع التعبير عن كل ما يجيش في النفس من مشاعر التقدير والاحترام والعرفان والامتنان لهذا الرجل الصالح الكبير، الذي كان فينا أمة كاملة تامة، وحَّد القلوب قبل الديار، كما يؤكد دائماً سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، مستودع تاريخنا وإرثنا الحضاري وذاكرة بلادنا، كلما تحدث عن والد الجميع المؤسس الباني عبد العزيز آل سعود. وأسس لنا وطناً فتيَّاً شامخاً، أرسى دعائمه وثبَّت أركانه، و حدد نظام استمرار مسيرته الظافرة إلى الأبد إن شاء الله؛ حق لنا أن نباهي به الأمم، تحول من صحراء جرداء إلى حديقة غنَّاء، بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بصدق نية عبد العزيز، وإخلاصه لربه، وصدق توكله عليه، طلباً لرضاء ربِّه سبحانه وتعالى. كما صور ذلك الشاعر إميشال أبو شهلا:
جعلت نظام الملك أمناً ورحمة
ومرتعه خيراً ومسرحه رحبا
وحوَّلت صحراء الرمال حدائقا
وأوردتها العمران والمنبت الخصبا
وقد صور الشاعر المبدع أحمد الغزَّاوي تلك المعاني السامية في حياة عبد العزيز في شعر رصين إذ يقول:
فليس براجٍ غير مرضاة ربِّه
ولو جشَّمته كل صعب ومشكل
ويعمل في ذات الإله وإنه
ليبلغ بالإخلاص أنجح مأمل
فليت الذين استمرؤوا طعم بغيهم
يرون بعين الرشد عقبى التوكل
فأصبحت بلادنا اليوم بفضل الله وتوفيقه، في عهد والدنا خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله ورعاه وسدد على طريق الخير خطاه، رقماً صعباً في سياسة العالم واقتصاده، لا يمكن حتى للدول العظمى تجاوزه، كما عبَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صراحة، أثناء قمَّة العشرين التي عقدت يومي الرابع والخامس من شهر سبتمبر لهذا العام، في مدينة هانغتشو الصينية. بل صار كثيرون اليوم يشدون الرحال إلينا من مختلف قارات العالم، طلباً للمشورة والرأي السديد والدعم الصادق الأكيد. تأكيداً لما ذهب إليه الشاعر المجيد سليم اليعقوبي في قصيدته (كأنما بعث الله به عمراً) عن الملك عبد العزيز، واصفاً أبناءه، إذ يقول:
أبناؤه مثله بأساً وليس لهم
ندٌّ إذا ما أثاروا الأينق الرسما
البيض تنبئ والسمر اللدان، فسل
إن شئت عنهم أولاء السمر والخدما
ومن كأبنائه الآساد، إنهم
إن قامت الحرب كانوا شهبها الرجما
تخلقوا بالتقى، بالدين مذ خلقوا
بالحسنيات، بما سادوا به الأمما
* * *
في كل يوم لهم في الطيبات يدٌ
تزجي إلى الظامئين العرض العرما
* * *
أبوهم بالهدى فيه تعهدهم
كما تعهد بيت الله والحرما
فاستعصموا بهداه فاقتدت بهم
ربوعهم فجرت في إثرهم قدما
هم الأكارم في دينٍ وفي أدبٍ
غض وللأدب الموهوب من كرما
هم الألى كأبيهم في سياسته
إن يبتغوا الحرب أو إن يبتغوا السلما
ويقول الشاعر فؤاد شاكر في المعنى نفسه، مخاطباً الملك عبد العزيز:
كل شبل أنجبته صار ليثاً
مخلباه دون العرينة سدُّ
وأكثر من هذا وأعظم: امتلكنا بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بجهد قيادتنا الرشيدة منذ عهد التأسيس حتى اليوم، دولة قوية مُوَحَّدة ومُوَحِّدة؛ كانت حقاً تمثل حلم العرب المنشود لعقود، كما أكد الشاعر الفذ الغزَّاوي، مخاطباً الملك عبد العزيز:
وأنت الذي شيَّدت للعرب دولة
هي الحلم المنشود والمطمح الوثب
وزانت بك الدنيا وصحَّ اعتلالها
وعزَّ بك التوحيد والتأم الشعب
وقول الشاعر سليم اليعقوبي:
بنى ليعرب مُلكاً غير منهدمٍ
وكل أبنائه أضحوا له دعماً
أقول، دولة قوية شامخة صامدة، يهابها الأعداء ويتسابق الأصدقاء على الفوز بودها؛ تحول جيشها من (الهجانة) الذين كانوا يحاربون العدو على الخيل والجمال بحراب وسهام وبنادق ومدافع بدائية في أحسن الأحوال، إلى سواعد قوية ذكية متعلمة ومتدربة، تستخدم أحدث ما توصل إليه العقل من آلات ومعدات وتقنية، لحماية المقدسات والدفاع عن الحدود والأعراض، والمنافحة عن هذا الإرث العظيم، الذي شيدناه عبر الأجيال، و رويناه بدمائنا، وقدَّمنا أرواحنا فداءً له و دفاعاً عنه ضد كل ظالم غاشم آثم. وسوف نظل نذود عنه بكل ما نملك إلى الأبد إن شاء الله.
وهي ليست قوة طائشة، بل ترفدها قيادة سياسية حكيمة، توفر لها كل متطلباتها، وتوجهها حسبما ترى حاجة لصد عدو أو نصرة مستغيث؛ ولم يحدث في تاريخها العريق كله أن بدأت أحداً بعداء، كما تفعل إيران التي تنخر مؤامراتها اليوم في معظم البلدان العربية بقصد الفتنة الطائفية والمذهبية، التي تتخذ منها وسيلة لتحقيق غايتها المبطنة في السيطرة على المنطقة. إلا أن دولتنا القوية بالله ثم بسواعد أبنائها الأشاوس، جاهزة دوماً لصب الحمم على كل من تحدثه نفسه بالاعتداء عليها، كما أكد الشاعر فؤاد شاكر:
من يحاول من مربض الليث قرباً
مثل من حاول السعير المذابا
تلك نجدٌ فسائلوها تجبكم
إن فيها أسداً شداداً غلابا
هم حماة النهى وهم موئل الدين
إذا ما النهى تشكَّى اضطرابا
هم أسود الوغى إذا دعت الحرب
تنادوا إلى لظاها حرابا
فهي إذن قوة سلام لبسط الأمن وحفظ الاستقرار وصد العنوان، فتلك هي سياسة ثابتة راسخة جلية، حدَّدها المؤسس بعبارات واضحة كجزء مهم من سياستنا الخارجية العاقلة المتزنة، في خطابه في حفل تكريم كبار الحجاج بمكة المكرمة، غرَّة ذي الحجة 1352هـ، حسبما جاء في جريدة أم القرى، العدد (484) بتاريخ 8-12-1352هـ، الموافق 24-3-1934م، إذ يقول:
1 - إنني أعمل ما فيه الخير والصلاح لديني إن شاء الله.
2 - ليس لي رغبة في معاداة أحد من المسلمين صغيراً أو كبيراً.
3 - أنا لا أحب الاعتداء على أي كائن، وجل غايتي في كل وقت الدفاع عن ديني وشرفي وبلادي، وأُشْهِدُ الله في هذا الشهر المبارك، على أنني أتمنى وأسعى للائتلاف والتصافي في كل وقتٍ وآنٍ.
فهي دولة إذن صاحبة رسالة لتعمير الحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة في مكة المكرمة، وتهيئتها للحجاج والمعتمرين والزائرين، وضمان أمنهم وتأمين راحتهم ورعايتهم؛ ليؤدوا نسكهم في أمن وراحة وطمأنينة. وأترك المجال هنا لما يشاهده العالم في مواسم الحج والعمرة وحتى في أوقات الزيارة، من جهد صادق من السعوديين قيادة وشعباً في خدمة هذه الرسالة العظيمة، إذ تكاد الحياة تتوقف تماماً، وتتجه كل الطاقات، على رأسها مليكنا المفدى و ولي عهده الأمين، إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة لتتشرف بخدمة ضيوف الرحمن. وهو جهد تشريف، حاشا لله أن نمن به على أحد، بل مهما نفعل، نجد نفسنا عاجزين حقاً عن شكر الله المنعم الوهاب سبحانه وتعالى، على هذه النعمة العظيمة، أن جعل بيته عندنا واستعملنا عليه لخدمة ضيوفه ورعايتهم، فتشرَّف قائدنا بلقب (خادم الحرمين الشريفين).. وأي شرف أحب للمؤمن من هذا وأعظم. كما أكد الشاعر علي السيد جعفر، مخاطباً الملك عبد العزيز:
يا خادم الحرمين منسكي الهدى
أكرم به لقباً أعز موقرا
وليطمئن الإيرانيون، بل ليمت (مرشدهم) غير الرشيد، بغيظه: نحن دولة رسالة، لا دولة ضلالة، وما أُسِّست دولتنا المباركة الفتية هذه، إلا لخدمة هذه الرسالة العظيمة التي شرَّفنا الله بها؛ ولن نسمح لكائنٍ من كان بصرفنا عنها، وسندافع عنها بكل ما نملك حتى آخر قطرة دم فينا؛ ولن يمسها سوء إن شاء الله إلى الأبد؛ بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بصدق نيَّة قيادتنا الرشيدة وعزمها وحزمها وقوة سواعد أبنائنا الذين طالما أذهلوا العالم باستعدادهم الدائم للدفاع عن عقيدتهم؛ فليس في الدنيا ثمَّة شيء أشرف من الشهادة دفاعاً عن بيت الله ومثوى رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم.
* * *
ويدخل في هذا ضمناً، الدعوة إلى التآخي والتآزر والتعاون على البر والتقوى، وتعزيز عرى المحبة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، صغيرهم وكبيرهم، عربيهم وأعجميهم. وعدم الاعتداء على أيٍ كان، بل كل غايتنا كما حددها المؤسس هي الدفاع عن ديننا وشرفنا وبلادنا، حتى ونحن نمتلك اليوم قوة من أعظم القوات في الشرق الأوسط، التي تعد على أصابع اليد الواحدة. وليس التحريض والاعتداء وخذلان المسلمين، كما تفعل اليوم إيران، التي تعجز قيادتها عن السيطرة حتى على سيارة إسعاف، كما ظهر مؤخراً في وسائل التواصل الاجتماعي، أو المؤتمرون المزعومون في الشيشان، الذين يتباهى (كبيرهم) بـ (حب اليهود) ويفاخر، أو الدولة الطائفية التي يسمع رئيس وزرائها قرارات وزاراته من الإعلام، كسائر العوام.
أعود لأؤكد أننا نظل عاجزين مهما بذلنا من جهد متواضع، لإعطاء هذا الرجل الصالح الكبير، عبد العزيز آل سعود، حقَّه علينا وعلى الأمة والتاريخ والعالم، كما يؤكد سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، حفظه الله ورعاه، كلَّما تحدث عن والد الجميع، المؤسس عبد العزيز آل سعود: (... إن المنجزات الكبيرة التي حققها الملك عبد العزيز لوطنه ولشعبه وللأمتين العربية والإسلامية ومناصرته لقضايا الحق والعدل والسلام في العالم، لن ترصدها مائة كتاب أو مائتا كتاب أو حتى ألف كتاب، بل ستستمر أجيال عديدة تكتب عن هذه المنجزات العظيمة). وقد أبدع الشاعر خالد الفرج في صياغة تلك المعاني في شعرٍ رصين، إذ يقول:
إلى مجدك العلياء تعزى وتنسب
وفي ذكرك التاريخ يملى ويكتب
وفي عدلك الشرع الشريف ممثل
وفي حلمك الأمثال تتلى وتضرب
ولم يبق للإسلام غيرك ناصر
يؤيده، في الله يرضى ويغضب
نمتك جدود من ربيعة أصلهم
بهم فخر الحيَّان: بكر وتغلب
ولهذا رأيت اليوم أن اقتصر مقالي هذا على ما جادت به قريحة شعراء جريدة (أم القرى) المعطرة بعبق الماضي التليد، من اتفاق على بعض سجايا هذا البطل الهمام. أجل، أقول (بعض) وليس (كل) تلك السجايا التي تعجز آلاف المجلدات عن حصرها كما تقدم. وكما أكد الشاعر الفحل فيصل المبارك في قصيدته (فدتك النفس) التي تتشرف بإلقائها أمام المؤسس في حج عام 1348هـ - 1929م:
وما قصد المديح رفعت نظمي
لأنك في العلا قد جئت بدرا
وإن المدح يقصر عن علاكم
ولو سجلته نظماً ونثراً
وقول الغزَّاوي:
لم أغالِ، فقريضي دون ما
أوجبته لك قعساء الهمم
وقول الشاعر محمود صعب، في قصيدة جزلة (تحية جلالة الملك)، تتكون من مائة بيت وبيت واحد، سرد فيها تاريخ الأمة الإسلامية، بين صعود نجمها ثم أفوله:
إليك تلفت الأنظار لمَّا
تجد النفس في طلب المزيد
ملوك العرب شعر عبقري
وعبد عزيزهم بيت القصيد
ومع جزالة كل ما أبدعته قريحة شعراء (جريدة أم القرى)، في مدح والدنا المؤسس، إلا أن زميلهم الشاعر الفصيح حسين سرحان، يستهجن كل ما جادوا به ويرى أنه لم يبلغ مقام الممدوح، إذ يقول:
وضع الشاعرون فيك أناشيد
فلم تلق في الفؤاد ارتياحا
وكذاك المديح ما لم يكن عفواً
فدعه ما كان إلا نباحاً
إنما المدح صورة من ولاءٍ
كان في الفؤاد فباحا
كلما عن لي مديحك أصبحت
على الأثر شاعراً مداحاً
أقول، رأيت اليوم أن أتيح المجال لقريحة أولئك الشعراء الأفذاذ من كل البلدان الإسلامية، الذين عاصروا عبد العزيز وعرفوه من قرب، وسعدوا أيما سعادة، بأداء فريضة الحج معه، فزاحموه في الطواف والسعي، والمبيت بمنى، والوقوف بعرفات، والدعاء عند المشعر الحرام، ورمي الجمرات. فأسرهم صدق نيته وإخلاصه لعقيدته، وحرصه على خدمة أمته؛ وتلك هي السجايا نفسها التي أخذها عنه قائدنا سلمان اليوم، نجل عبد العزيز، وأخو الفهد، الذي طالما رأيناه يطوف بالبيت العتيق لوحده، فيتشرف الطائفون من كل جنس ولون بالسلام عليه، ويُقَبِّل الأطفال يده الكريمة، وهو مطمئن.. لا حاشية ولا بروتوكولات، تماماً كما كان يفعل عبد العزيز، وكل أبنائه الغر الميامين الذين قادوا السفينة بعده. فنظموا فيه قصائد كالدرر الحسان واللآلئ الفريدة النادرة، تفيض بمعانٍ جزلة، تقوم فيها القصيدة الواحدة أحياناً، مقام مجلد كامل، بل ربما أدى هذا الدور تارة أخرى بيت واحد من الشعر.
ملك صالح، لا يريد إلا إصلاح الأمة وخدمة العقيدة، مقسماً بالله العزيز الحميد أنه لا يحب الملك: (والله إنني لا أحب الملك وأبهته، ولا أبغي إلا مرضاة الله والدعوة إلى التوحيد. ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التمسك بذلك، وليتفقوا، فإنني أسير وقتئذٍ معهم، لا بصفة ملك أو زعيم أو أمير، بل بصفة خادم. أسير معهم أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي، والله على ما أقول شهيد، وهو خير الشاهدين). وقد صور الشاعر أحمد محمد الكناني المصري، هذا المعنى في بيت جامع من قصيدته العصماء (بالعزم) التي ألقاها أثناء حج عام 1349هـ-1930م، إذ يقول مخاطباً الملك عبد العزيز:
لست الذي بجلال الملك نال علا
إذ من علاك جلال الملك يُكتسبُ
أقول، شعراء كثر من سائر البلدان العربية والإسلامية، عاصروا عبد العزيز، وعاش بعضهم معه عن قرب، وزاحموه في المشاعر المقدسة، فأسرتهم شخصيته البهيَّة التي جمعت من الصفات ما يفوق الوصف حقاً. مما حدا بالبعض لصياغة تلك الصفات البطولية النبيلة شعراً، كما فعل الشاعر أحمد عابد المدني:
فإن ذكرت علياء كنت ملاكها
وإن ذكرت الأفذاذ كنت لهم فخر
تطاولت المداح قبلي بمدحه
فنظمتها شعراً تغار له الزهر
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها
فلا افترقت ما ذبَّ عن ناظر شفر
ضميرك والتقوى وكفك والندى
ولطفك والحسنى وسيفك والنصر
وقول الشاعر عبد القادر الزهَّاوي:
لا زال سعيك مقروناً بأربعة
عزم وحزم وإخلاص وإقدام
وقول الغزَّاوي في وصف سخاء عبد العزيز وكرمه وحلمه ودأبه وشفقته على رعيته:
وسخاء كأنما الطل منه
قطرات مرقرقات النسائم
أطعم الطير في الوغى ونراه
يطعم الناس في السنين العوادم
مشفق أن يجوع ربُّ عيال
ضجَّ من حوله الصغار البواغم
فهو في سهده عليهم رحيم
ليس من فوقه سوى الله راحم
وهو في حلمه المعوَّذ فرد
كلما هاج غيظه فهو كاظم
يقظ ساهر عفيف دءوب
عرف العرب فضله والأعاجم
إلى غير ذلك من شمائل عبد العزيز ومكارمه التي تجل عن الوصف، كما تقدم؛ مما جعل بعض أولئك الشعراء الأفذاذ، لا يرون عصراً أفضل من عصر الخلافة الراشدة، غير عصر عبد العزيز آل سعود، كما أكد الشاعر الكاتب الأديب، الرجل الموسوعي، عبد الله بن خميس، رحمه الله، الذي ورثت عنه ابنته (أميمة الخميس) كثيراً من مواهبه، إذ يقول:
إذا ذكرت للأكرمين شمائل
يضائلها من عاهل العرب ذكره
وإن يكن قرن في الأنام مفضلاً
فأفضل ما بعد الخلافة عصره
تدل على عبد العزيز فعاله
وقد طبق الآفاق بالمجد ذكره
غير أن أكثر ما لفت انتباهي، هو إجماع أولئك الشعراء على التأكيد على ثلاثة مبادئ أساسية، عُرِفَ عن عبد العزيز أنه لا يجامل فيها مطلقاً، حتى أهل بيته: العقيدة، الأمن والعدل. وقد لخص هذه الرؤية، سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان، حفظه الله ورعاه، ذاكرة بلادنا، إذ يقول: (هنالك ثلاثة أمور أساسية، كان الملك عبد العزيز لا يقبل فيها جدالاّ إطلاقاً، ولا يقبل فيها أي خلل، أولها العقيدة ودفاعه عنها وتمسكه بها وعدم المساس بها. والثاني الأمن، أمن الدولة، ولا يمكن بحال من الأحوال تطبيق الشريعة ما لم يكن هناك أمن في الدولة. والأمن ليس بالبطش أو بالرعب، بل بالعدل وتحكيم كتاب الله وسنَّة رسوله عليه الصلاة والسلام. والثالث المحافظة على حقوق الناس ودمائهم وأعراضهم وأموالهم). ويؤكد هذا الملك فيصل، طيَّب الله ثراه، إذ جاء عنه في شهادته عن عدل والده، قوله: (إن والدي في تربيته لنا، يجمع بين الرحمة والشدة، ولا يفرق بيننا وبين أبناء شعبه. وليس للعدالة ميزانان يزن بأحدهما لأبنائه، ويزن بالآخر لأبناء الشعب. فالكل سواءٌ عنده، والكل أبناؤه. وأذكر أن أحد إخوتي الأطفال اعتدى على طفل آخر، فما كان من جلالته إلا أن عاقبه ولم يشفع له أنه ابن الملك). بل إن سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان نفسه، حفظه الله ورعاه، نال حظه من حزم عبد العزيز في تطبيق العدل والمساواة عندما كان صغيراً، يوم حجزه في تلك الغرفة الخاصة في قصر المربع، عند تخلفه عن إحدى الصلوات، كما ذكر مقامه الكريم في كتابه (ملامح إنسانية من سيرة الملك عبد العزيز).
ولهذا رأيت أن أكتفي هنا ببعض نماذج من تلك الأشعار الجزلة التي تحدث فيها شعراء (جريدة أم القرى) عن عدل عبد العزيز وحرصه على بسط الأمن، حتى أصبح الذئب يرعى مع الشاة، دون أن تحدثه نفسه بالاعتداء عليها. فاطمأن الحجاج والمعتمرون والزوار، بعدما كانت الرحلة إلى الديار المقدسة محفوفة بمخاطر حقيقة، قد يفقد فيها الحاج نفسه بسبب انفراط عقد الأمن والفوضى السائدة التي كانت تحل للطغاة المعتدين كل ما تصل إليه يدهم من حلال الحجاج وزادهم على تواضعه؛ ويقول الشاعر أحمد الكناني في هذا المعنى:
عبدالعزيز، نشرت الأمن في بلد
كانت نفوس البرايا فيه تُنْتَهبُ
وقد أقمت حدود الله معتمداً
على العدالة فارتاعت لها العصب
إذ ما رعوا حرمة البيت الحرام ولا
خافوا الإله ولم تردعهم النوب
فكان خير دواء أن ضربت على
أيديهم فاستتب الأمن واحتجبوا
فأنت أنت الذي لو لاك ما أمن
الحجاج بل أنت في ذي الراحة السبب
ويقول الشاعر محمد العباسي البغدادي:
أمَّن الطرق في الحجاز وكانت
قبله يشتكي بئيس أذاها
كانت أرض الحجاز تشكو غلاها
فمحى الله ضيقها وغلاها
عمَّم العدل في الجزيرة قسراً
ومن المهيع الوخيم وقاها
ويصف الشاعر سليم اليعقوبي عدل عبد العزيز، قائلاً:
لو أقسم المرء أن العرب ما عهدوا
كعدله في سبيل الحق ما أثما
كأنما بعث الله به (عمراً)
ذاك الذي قصم الطاغوت فانقصما
يرضى بما يحكم الخصمان أي رضىً
حتى كأنهما من قبل ما اختصما
وإن هما رضيا منه، فلا عجب
ففي يديه كتاب الله إذ حكما
لم يلتزم غير ما جاء الكتاب به
تالله غير كتاب الله ما التزما
ولم يحد عن هداه قيد أنملة
ولم يكن بسوى ما فيه متسما
وأختم هذه الفقرة بشعر جزل للغزَّاوي، هذا الشاعر الفذ الذي يعجبني شعره كثيراً، يصور فيه حال الحج قبل عبد العزيز وبعده:
ذاك (والحج) سلعة أو متاع
أو هو الصيد في شراك المآزم
حين كان الفناء حتماً وكانت
أنفس الوافدين شلو اللَّهازم
حين كان الولاة أضعف من أن
يمنعوا (الطائفين) من كل هاجم
دمهم مهرق هدار حلالٌ
ما له حاقن و لا عنه عاصم
فاشكروا الله واذكروه كثيراً
فله الحمد والثناء الدائم
وابلغوا اليوم قصدكم وتملَّوا
بأمانيكم عل أنف راغم
واطلبوا العفو من عفوٍّ غفورٍ
وعده الصدق لا ضلال المزاعم
وانظروا الأمن حيثما هو ضاف
مستقرَّ العماد رحب المعالم
وحقاً، وددت أنني أستطيع أن أنقل إليكم كل ما أبدعه شعراء (جريدة أم القرى) من وصف لمحاسن والدنا البطل الفذ المؤسس ومكارمه ومناقبه، التي ما تزال تسير بها الركبان وتضرب بها الأمثال في العدل والتقى والحرص على نقاء العقيدة و وحدة الأمة وخدمة ضيوف الرحمن.
وإذ نحتفي هذه الأيام بذكرى يومنا الوطني المجيد، ومؤسس دولة الرسالة، نجد نفسنا عاجزين عن شكر المنعم الوهاب، أن وفَّق أبناء عبد العزيز من بعده، وشعبه المتحد دوماً، كما وصفه الشاعر سليم اليعقوبي:
وأن تك انقسمت بعض الشعوب على
بعض، فلم يك هذا الشعب منقسما
أقول، وفَّقهم للعمل على استمرار قافلة الخير القاصدة في خدمة ضيوف الرحمن، وحشد كل إمكانات البلاد وطاقاتها لرعايتهم، حتى يؤدوا نسكهم في أمن واطمئنان وسلام، كما شهدنا في حج هذا العام، وسوف نشهد في حج كل عام إن شاء الله. ولن يلهينا عن قصدنا شاغل أو جاهل، مهما بلغ من الانحطاط والجرأة على تهديد أمن الديار المقدسة. فليعلم العالم أجمع أن هذه الديار هي جوهر رسالة بلادنا التي أريقت الدماء وأزهقت الأرواح من أجل إنشائها، خدمة لهذه الرسالة العظيمة التي شرفنا بها خالقنا؛ فدونها خرط القتاد. ولن يصيبها أذىً أبداً إن شاء الله، من أيٍّ كان، بحفظ الله ورعايته، ثم بعزم قيادتنا وحزمها وسواعد شعبنا الباسل، فكل واحد منَّا جندي في ثغرة من ثغرات الوطن لحراستها؛ ودونكم دويُّ عاصفة حزمنا التي قضَّت مضاجعكم.. وهل يفكر عاقل و لو للحظة واحدة، أننا يمكن أن نفرط في أمر شرَّفنا الله فأتمننا عليه؟
وأخيراً، لا أجد أفضل من دعاء شاعر (جريدة أم القرى) عبد العزيز بن شعبان، لعبد العزيز و ذريته وشعبه ودولته، لكي أختم به:
أدام الله دولته يباهي
بها الإسلام والبيت الحرام
وحول عرينه ولدى حماه
بنوه السادة الغر العظام
وخلَّد ملكهم وأدام فيهم
إماماً بعده يلفي إمام
فاللهم احفظ لنا ديننا، وقيادتنا الرشيدة، وشعبنا الوفي المخلص، وأعنا لأداء هذا الواجب العظيم في خدمة بيتك ورعاية ضيوفك على الوجه الذي يرضيك يا رب العالمين.. اللهم آمين.