أ.د. إبراهيم بن محمد قاسم الميمن
الحمد لله حمد الشاكرين، سبحانه وبحمده جمع بعد شتات وألّف بعد فرقة، وأنعم وتفضل فله الحمد حتى يرضى، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله الأوفياء وصحابته ومن اقتدى، وبعد:
فإن تذكر النعم وتعدادها من وسائل شكرها، والنعم متفاوتة في ذاتها وأثرها وكلما عظمت عظم الواجب تجاهها ومن النعم الكبرى التي منّ الله بها على هذه البلاد الطاهرة والوطن العزيز، ذلك المرسوم الملكي الذي أصدره الملك عبد العزيز برقم 2716، وتاريخ 17 جمادى الأولى عام 1351هـ، الذي يقضي بتحويل اسم الدولة من (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها) إلى (المملكة العربية السعودية)، ابتداء من يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351هـ الموافق للأول من الميزان 23 سبتمبر 1932م، وبذلك أعلن عن قيام المملكة العربية السعودية في ذلك اليوم الوطني المجيد كأعظم وحدة في هذه الجزيرة عرفها التأريخ المعاصر، وأجل نعمة تكاملت على وطن التوحيد، وبلد العقيدة، وأعظم منة لله بعد منة الإسلام.
إن اليوم الوطني - الذي تتجدد ذكراه السادسة والثمانين - من المناسبات الوطنية الكبرى، والأيَّام الخالدة لبلادنا الحبيبة، المملكة العربية السعودية، الذي يأتي هذا العام 1437هـ بعد موسم حج متميز ناجح لكل المقاييس، توالت فيها على حجاج بيت الله العتيق النعمة بهذه الولاية التي حولت المدينتين المقدستين، والمشاعر المقدسة إلى أنموذج حضاري، وواقع مليء بالخدمات يشهد بحجم البذل والعطاء، ويتمتع فيه الحجاج بالأمن والأمان التام، حتى يدرك الحاج بما يفقده من متاعه، وقفوا في عرصات المناسك، ونعموا بأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، وغمرتهم مشاعر الغبطة والسرور، والفرحة والحبور بما أتم الله عليهم من نعمه، وما أفاض عليهم من رحمته ونفحاته، ويؤدون في هذا اليوم معظم أعمال النسك ليكون هذا سببا لبر الحج، وقضاء التفث، فالحمد لله الذي أتم النعمة، ووفق ولاة أمرنا لما يحب ويرضى، ثم تأتي هذه المناسبة الوطنية المهمة وهذا اليوم الذي تمر علينا ذكراه المتجددة الممتدة - بإذن الله - ، ويعبق فينا شذاه، ونعيش نعمه العظيمة، التي نسأل الله عز وجل أن يحفظها من الزوال، ويديم علينا أثرها وخيرها، فهو نقطة فاصلة في التاريخ المعاصر، وتحول نوعي، تحقق فيه لهذا الوطن المقدس، والكيان العظيم المملكة العربية السعودية نعم لا يقدر قدرها إلا من عرف الحقبة التاريخية السابقة لهذا التأريخ المجيد، وقرأ أو سمع عن الأوضاع السائدة في هذه الجزيرة العربية، وما كانت تعانيه من تشرذم وتفرق وتناحر، وقبل ذلك بُعْدٌ عن دين الله، وهدم لأصل الأصول، وأساس الدين توحيد الله جل وعلا، وما من شك أن هذا التاريخ يذكرنا بهذه النعم وما تلاها من نعمة الاجتماع والتوحد والألفة، وتوحيد أجزاء هذه البلاد على أصول عظيمة وأسس متينة أهمها تحقيق توحيد الله وإخلاص العبودية له، وإقامة شريعة الله والحكم بها والتحاكم إليها، والتعبد لله بهذه العبوديات التي تحقق الغاية من الخلق، فليس المراد بهذا اليوم مجرد حدث تأريخي، أو سرد متكرر لا يعدو التفاصيل التاريخية، وإنما التواصي بالحق، والتعاون على الحفاظ على المكتسبات والمقدرات والنعم التي امتن الله بها، أساسها نعمة توحيد الله، وتحكيم شريعة الله وغيرها مما جعله الله أساسًا في تحقق الأمن بمعناه الشمولي، وكمال النعمة بالتمكين والاستخلاف في الأرض، فما قامت عليه مملكتنا الحبيبة هو من أسس العز والنصر والتمكين والاستخلاف، مداقًا لقول الله جل شأنه: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون} (الأنعام: 82). وقوله جل شأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ أمنوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا استخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمنا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور: 55).
وما نتج عن هذه الصورة المثالية في وطننا المبارك من آلاء عظيمة، ونعم كبيرة أعظمها بعد تطبيق التوحيد وتحقيق العبودية لله نعمة الأمن والأمان التي صارت مضرب المثل للقاصي والداني، ورغد العيش، ووفرة الرزق، وغيرها، وهذا هو موعود الله لمن أعلى راية التوحيد، وطبق شرع الله، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون} (الأنعام: 82). وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} (الحج:40).
إن مرور هذا الوقت على أبناء هذا الوطن كل عام يذكرهم هذه النعم، كما أن المناسبة تعيد إلى الأذهان ذلك العمل البطولي الذي قام به الملك المؤسس الباني المغفور له - بإذن الله - الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل - طيَّب الله ثراه وجعل الجنة مأواه - الذي صدق الله في نيته وعمله فصدقه الله، ومكّن له، واستطاع بذلك العمل التأريخي أن يقيم أعظم وحدة في مقابل التهديدات التي كانت تواجه العالم العربي خصوصًا والعالم الإسلامي عموماً، ولتكون ثمار هذه الوحدة أمنا وارفًا، وعيشًا رغيدًا، وألفة واجتماعًا، وكيانًا عظيمًا يستعصي على الزوال بإذن الله، بل صار منطلقًا لجهود متواصلة، وأعمال دؤوبة، تصب في خدمة الدين أولاً، ثم خدمة هذا الوطن الأمن، فمرور هذه الذكرى تذكرة للأجيال الحاضرة والقادمة بنعمة الله على هذه الجزيرة أن هيأ لها هذا الإمام الفذ، والقائد المصلح، ومنحه من الصفات ما مكنه من تجاوز كل العقبات ليجمع الله على يده شمل هذه الجزيرة، ولتستمر هذه النعم في أبنائه البررة وأحفاده الميامين، حيث لا نزال وسنظل - بإذن الله - نتفيأ هذه النعم ما دام أن صانعي القرار، وولاة الأمر يعلنون في كل مناسبة، ويفخرون أمام العالم بأن سر العز والتمكين هو تطبيق شرع الله الحكيم، والتمسك بهذا الدين القويم، وتتكرر على ألسنة حكامنا الأوفياء أن أمر الدين والوطن لا مساومة عليه، أفلا يحق لنا بعد ذلك وقبله أن نجعل من تكرار هذه المناسبة فرصة للمحاسبة والتذكير بأهمية هذه الأسس والثوابت التي قامت عليها المملكة العربية السعودية، وربط الناشئة بهذه المعالم التي تحميهم من الانحراف، وتجعل مسألة الانتماء لوطنهم ومحبته، والشعور بنعم الله عليه، والوفاء بمقومات المواطنة الحقة التي هي حفاظ على الثوابت التي قامت عليها البلاد من أبرز وأهم ما ينشؤون عليه، ويستشعرونه شعورًا غريزيًا فطريًا، ويتنامى لديهم، ويتعزز بما لهذا الوطن من خصائص وميزات، وما حباه الله به من خيرات، ببركة هذا الحكم الراشد، والدولة الميمونة، فهذه هي دلالات هذا اليوم العزيز، وهذا ما يذكرنا به مروره المتكرر، وإن حقًا علينا ونحن نتفيأ هذه النعم، ونرى في مقابل ذلك ما يحيكه أعداء الأمة وأعداء الوطن الذين يستهدفون أمنه ووحدته وثوابته، والنهج الذي قام عليه، نهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ذلك النهج الذي يجمع ولا يفرق، ويعيد الناس إلى فهم خير القرون، ويجمع على تلك المابع الصافية التي هي أساس نجاتهم وفلاحهم أن نتحمل المسؤولية كاملة، وأن نجعل من مثل هذه المناسبات فرصة لتجديد العهد، والتذكير بما تقتضيه الأصول الشرعية المرتبطة بالجماعة والإمامة، والبيعة، وأن نتخذ من قيامنا بها عبودية نتعبد بها لله امتثالاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أمنواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ} (النساء: 59).
وقول النبي - صلى الله عليه وسلَّم - : «الدين النصيحة»، ونبني على هذا ألا نسمح بأي فرصة تحدث خللاً أو نقصًا حتى ولو بالشعور والمشاعر، حتى نجعل هذه المعالم حصانة تقي مجتمعنا وأجيالنا من الانحراف بإذن الله، والله المسؤول أن يحفظ علينا هذه النعم، ويحميها من الزوال.
وإنني أغتنمها فرصة لأرفع ببالغ التقدير والامتنان التهنئة الخالصة، والتبريكات لمقام مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، وسمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، حفظهم الله ذخرًا للإسلام والمسلمين، ولهذا الوطن الغالي، وأدام عليهم نعمه، وأسبغ عليهم فضله، وأتم عليهم آلاءه، بمناسبة نجاح موسم حج هذا العام المبارك 1437هـ، وبمناسبة اليوم الوطني لمملكتنا الحبيبة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.