زكية إبراهيم الحجي
في كتابه "توازن الغد" يشير "روبرت شتراوس" إلى أن المهمة الأساسية لأمريكا تتمثل في توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها واستمرار الهيمنة الثقافية الغربية وأن هذه المهمة لا بد من إنجازها لمواجهة القوى التي لا تنتمي للحضارة الغربية.. وعموماً فملخص هذا الكتاب هو دعوة نزوع لغزو الآخرين ثقافياً واقتصادياً ومهاجمة الهويات الأممية وإذابة النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب وفرض التبعية عليها.
في عصرنا الحالي بات العالم أمام حقيقة واقعة اسمها العولمة وبالتالي يُفهم من هذه الحقيقة على أنها تقارب حتمي بين نظم وتجارب إنسانية صنعته سقوط الحواجز.. وهو السقوط الذي أدى إلى تقدم علمي في وسائل الاتصال وتبادل المعلومات إلا أنه لم يكن قادراً على أن يخلق واقعاً إنسانياً جديداً أفضل من كل ما كان قبله فما السر في ذلك.
رغم اقتران مفهوم العالم الجديد بمفهوم العولمة وعلى مختلف المستويات إلا أن تعدد أبعاد العولمة وتداخلها مع بعضها دفع الكثير بالقول بأن العولمة ليست خياراً وإنما حقيقة واقعة صنعتها وأنتجتها أمريكا ومنحتها لغير الأمريكيين ولكن بشروط أمريكية لذلك تُرجمت عند كلِّ من بشَّر بها وصفق لها على أنها مرحلة للتطور العالمي الذي يشهد العديد من التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية..لهذا لم يعد مفهوم العولمة بالنسبة لأمريكا مجرد نظام بل تحولت إلى أيديولوجيا تمكنت من خلاله وبفعل ما تمتلكه من قوة شاملة إلى تصدير آلياتها إلى جميع دول العالم.
إن العولمة باللغة العصرية وبالمفهوم المعاصر أصبحت تعني الأمركة.. الأمركة المهيمنة المتحكمة والمتلاعبة بالسياسة والاقتصاد العالمي.. هذا غير امتدادها لتطال ثقافات الشعوب وتنال من هوية المجتمعات بل سعت بكل جدية إلى تعميم نماذج من السلوك والأخلاق.. وأنماطاً من العيش ليتوافق مع ثقافتها وينسجم مع ميولها.. وأقل ما يقال عنها بأنها وجه استعماري احتل العقل والتفكير.. وهذا ما أشار إليه الرئيس الأمريكي الأسبق"بوش الأب"حيث قال"إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي"وهذا هو نزوع الاستعمار لغزو الآخرين ومهاجمة الهويات الثقافية نشاهده اليوم في مجتمعاتنا هذا عدا تفتيت المنطقة العربية جغرافياً والتلاعب بالسياسة والاقتصاد بما يخدم مصالح وأهداف المستعمر.
لقد تخطت العولمة مجال السياسة والاقتصاد لتدخل إلى خصوصيات المجتمعات.. فهي تروج وبقوة لأنماط معينة في العلاقات الاجتماعية على مختلف المستويات وتكمن الخطورة في أننا عاجزون عن إيقاف هذا الترويج.. فثورة الاتصالات المرئية والمسموعة بأجهزتها المتنوعة تحاصر الإنسان وتدخل بيته هذا من جهة.. ومن جهة أخرى أننا إذا نظرنا نظرة عامة إلى هذه القضية من الناحية الاقتصادية يلفت انتباهنا تداخل الشبكات الاقتصادية العالمية لتكوين تكتلات اقتصادية كبرى هدفها الهيمنة وهذه هي محصلة تحرير التجارة العالمية ومحصلة القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا.
إن عالم اليوم وفي ظل العولمة وتياراتها المختلفة أصبح أكثر إرهاباً وأقل أمناً وسلاماً مما كان عليه فأضحت معظم المجتمعات تعيش في مناخ غير آمن في دولها.. هذا إلى أن هناك تنامياً للعنف بات واضحاً داخل كثير من الدول نتيجة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها العولمة ناهيك عن ازدياد معدلات الفقر والبطالة وسوء الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية.. وهذا ما جنته كثير من دول العالم في ظل العولمة المهيمنة أو بالأصح الأمركة المتسيدة.. وهذه أبعاد العولمة التي لا تعني سوى الخطر الذي يهدد البشر أكثر مما يحقق لها الأمن والسلام وفرص العيش الرغيد.