د. عيد بن مسعود الجهني
أقر مجلسا الشيوخ والنواب الأمريكي الذي يسيطر عليه الجمهوريون قانونا اختاروا له اسم (قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب)، هذا القانون قام بتقديمه للمجلس كل من تشاك شومر عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي وزميله جون كورناين عضو مجلس الشيوخ الجمهوري، ومن يسمع عن القانون يعتقد أنه فعلاً كعنوانه قانون عدل، وحقيقة الأمر أن رجال القانون يدركون أنه لا يتعدى كونه قانوناً ظالما غلف بلباس السياسة وليس بعلم القانون.
مضمون هذا القانون (الغريب) أن مجلسي الشيوخ والنواب نصبا نفسيهما قضاة مشرعين (بالقوة) عن المنظومة الدولية، عندما سمح هذا القانون (المعيب) لأسر ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م بمقاضاة الجهات الأجنبية التي (يعتقدون) أنها وراء الهجمات طلبا لتعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم.
وفي لغة القانون المبسطة أن أعضاء الأمم المتحدة مطبقون الميثاق الذي ارتضوه لتلك المنظمة التي قامت على حطام عصبة الأمم التي قتلها النازي هتلر وهبت رياح الحرب الكونية الثانية المدمرة، هذا القانون يضرب ميثاق الأمم المتحدة بمقتل الذي ضمن سيادة الدول واستقلالها وجعلها متساوية فلا فرق بين سيادة القوة العظمى الولايات المتحدة وأصغر دولة عضو بالأمم المتحدة بالمساحة والسكان.
هذا لأن سيادة الدولة (أي دولة) هي الركن الأساسي في قيام الدولة التي توفرت لها جميع أركانها من سيادة وإقليم وشعب وحدود وسلطة حاكمة، وبذا لا يحق لدولة مهما كبر حجم قوتها ونفوذها أن تفرض من على أرضها قانوناً أو حتى حكماً قضائياً ليطبق على دولة أخرى وإلا أصبح العالم في فوضى دولية مبعثها القوة والنفوذ وبهذا تحطيم لميثاق الأمم المتحدة كما فعل هتلر بعصبة الأمم المتحدة، وهذا لا يريده المجتمع الدولي المتحضر اليوم الذي غزا الفضاء وسبح فيه.
وإذا كان هذا هو مفهوم ميثاق المنظمة التي يسيطر على مجلس أمنها الخمسة الكبار، وإقرارها لسيادة الدول باعتبارها خطا أحمر لا يحق لأي دولة أن تخترقه وإلا أصبح ذلك عدوانا صريحا يجب ردعه، وهذا هو ديدن المنظمة التي تعتبر المملكة إحدى الدول المؤسسة لها، وهي المنظمة التي نالت دولا عديدة من ضمنها دولا عربية استقلالها بعد تأسيسها الذي خرج من رحم الحرب الكونية الثانية عام 1945م.
ثم إن القانون الدولي والأعراف الدولية والعلاقات بين الدول تقف قواعدها في وجه هذا القانون الذي يتعدى الحدود الأمريكية إلى دول أخرى ليقرر منفردا رفع الحصانة السيادية عن دول تظهر أمريكا أن لها صلة بأعمال إرهابية تقع على الأرض الأمريكية، وذهب القانون ذاته إلى أبعد من ذلك بنصه على حق المتضررين مقاضاة الدول لما لحق بهم من أضرار، أمام القضاء الأمريكي جراء أحداث سبتمبر الإرهابية.
هذا نص معيب لأنه لم يقدم تعريفا جامعا مانعا للمعنى القانوني لما قصده القانون نفسه ما عدا ذكره بأن من حق المتضررين مواصلة النظر في القضايا المرفوعة أمام المحكمة الفدرالية بمدينة نيويورك وبهذا فإن القانون سيئ السمعة أقام من محاكم أمريكا محاكم دولية، وفي هذا مخالفة صريحة للقانون الدولي والأعراف الدولية وقانون الدبلوماسية وميثاق الأمم المتحدة.
هذا القانون الذي أصابه العوار القانوني لمخالفته الواضحة لمبدأ المساواة في السيادة بين الدول الذي نص عليه صراحة ميثاق الأمم المتحدة، وبذا فإن السلطة التشريعية التي يمثلها المجلسان تكون بذلك قد خلطت بين السياسة والقانون فغلّبت السياسة على القانون وبذا فإنها تؤسس لمبدأ خطير جديد في علم العلاقات الدولية.
بل إن مقترحي هذا القانون وتصويت المجلسين عليه يظهر بجلاء أنهم لم يتذكروا أن المجلسين نفسهما كسلطة تشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية سبق وأن أصدرا قانونا عام 1976م يمنح الدول الأجنبية حصانة من الدعاوي التي ترفع أمام المحاكم الأمريكية، وهذا يؤكد مبدأ المساواة بالسيادة بين الدول وحقوقها وواجباتها، ومن هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية التي تستضيف الأمم المتحدة.
ملاحظة أخرى قانونية هامة على هذا القانون، يبدو أن العضوين في المجلس اللذين اقترحا القانون وأعضاء المجلسين الذين صوتوا له بالموافقة غائب عنهم أن اللجنة التي حققت في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 برئاسة كل من توماس كين ولي هاملتون قد أصدرا بيانا قانونيا (أكدا فيه عدم وجود أي أدلة قانونية تثبت تورط أي دولة في تلك الهجمات) وهذا الدليل القانوني (الدامغ) جاء بعد اجتماعات مطولة لتلك اللجنة المكلفة من رجال قانون وخبراء في الأعمال الإرهابية والمخابرات والعلاقات الدولية، بين الدول فانتهت إلى عدم وجود أي دليل مهما كان نوعه يدين أي دولة في تمويل الإرهابيين ماليا أو رعايتهم.
وفي تكييف قانوني مبسط لهذا القانون يتضح أنه ليس قانون يلبس ثوب القانون بقدر ما هو متعلق بالسياسة، فنصوص أي قانون لابد أن تكون واضحة المعنى لا لبس فيها بل لا بد أن تشرح مواده لائحة تنفيذية.
ثم إن أي قانون تصدره سلطة تشريعية في دولة ما فإن هذا القانون لا يطبق إلا على مواطني تلك الدولة، وإذا ما وقعت جريمة على أرض دولة ما فإن قضاء تلك الدولة هو المختص الأصيل، شريطة أن يعطى مرتكب الجريمة حقه القانوني بالدفاع عن نفسه في جميع مراحل التقاضي، بمعنى أنه لا يجوز قانونا أن تتم المقاضاة بناء على الشبهة بعيدا عن مستندات قانونية لا لبس فيها.
إن مثل هذا القانون من حق رئيس السلطة التنفيذية الرئيس الأمريكي السيد أوباما نقضه بالفيتو إذا تسلم القانون، لكن يستطيع المجلسان الشيوخ والنواب أن يقروه مجددا بأغلبية الثلثين خاصة إذا احتدم الصراع بين السلطتين في زمن سيطرة الجمهوريين على المجلسين.
لكن إذا أصر المجلسان على رأيهما فإن الثمن سيكون غالياً فالخاسر الأكبر أمريكا اقتصادياً واستثمارياً وسياسياً، فإن دولاً أخرى ستتعامل مع الولايات المتحدة بالمثل، وقد يلحق هذا الأذى الدبلوماسيين الأمريكيين والعسكريين في الخارج المحميين بالقانون الدبلوماسي الدولي الذي تعمد المجلسان في ذلك البلد ضربه في الصميم، ناهيك أن الدول المستثمرة في أمريكا سيساورها الشك في صدقية القضاء السلطة التشريعية بذلك البلد وستحد من استثماراتها.
ولا شك أن من له صلة بدراسة القانون الأمريكي والسلطة القضائية يدرك أنه إذا ما فتح هذا الباب فإن مسيرة التقاضي ستستغرق سنوات طوالا خاصة مع غياب المستندات القانونية الدالة.
ثم تأتي مرحلة التنفيذ وهي العقدة القانونية الكبرى فلا يستطيع القضاء الأمريكي التنفيذ الا بموافقة الدولة المعنية وهذا لن يتحقق مادام أن دولة ما ليست معنية أصلاً بالقانون المشار إليه ولا بقرار قضائي لا يعتمد على مستندات قانونية دامغة.
ولنأخذ الدليل على لسان السيد بايدن نائب الرئيس الأمريكي والسيد كيري وزير الخارجية في زيارتهما الأخيرة لتركيا ومقابلتهما الرئيس التركي السيد أردوغان الذي طالب أمريكا بتسليم السيد غولن إلى بلاده لاتهامه بوقوفه خلف الانقلاب الأخير بتركيا.. وإجابة بايدن وكيري وقبلهما أوباما للرئيس التركي أن بلادهم لن تسلم غولن إلا بعد أن تقدم تركيا جميع المستندات القانونية التي تدين الرجل ثم تعرض على القضاء الأمريكي للنظر واتخاذ القرار.
إن هذا المبدأ القانوني يبرز حقوق وواجبات الدول في المنظومة الدولية ويؤكد مفهوم قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية والعلاقات بين الدول وميثاق الأمم المتحدة وهو الذي تجاوزه المجلسان بإصدار قانون يسن قواعد والتزامات قانونية على دول أخرى ذات سيادة مستقلة ليقع المجلسان في خطأ قانوني كان من المفترض ألا يحدث من مجلسين من ضمن أعضائهما رجال قانون ودبلوماسيون وعلاقات وسياسة دولية، لكن غطرسة (القوة) أحياناً تطغى على تبادل المصالح بين الدول واحترام حقوقها وسيادتها التي لا تقبل أن تمس.
لعل السلطتين التشريعية والتنفيذية في بلاد العم سام يبتعدان عن صراعهما في انتخابات الرئاسة ويتفقان على إصلاح ما وقعت به السلطة التشريعية من خطأ قانوني لتقر قانوناً ظالما بعيداً عن المفهوم الواسع للعدالة.. فالرجوع إلى الحق فضيلة.
والله ولي والتوفيق