د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لقد كثرت الأحاديث والكتابات في وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة عن خصخصة خدمات صحية حكومية. وهو موضوع ليس بغريب، وتاريخه ممتدّ منذ نشأة النظام الصحي في المملكة عام 1345هـ إلى الآن، لكن ليس بمفهوم التخصيص لخدمات حكومية قائمة. بل بدأ بالترخيص لخدمات صحية أهلية مثل العيادات والمستشفيات الخاصة. بل شجعت الحكومة على ذلك فأجازت لأطبائها فتح عيادات خاصة - ومُنع 1391هـ بقرار تفرّغ الأطباء، وبعد ذلك أجيز وفق نظام تعاون الأطباء الجامعيين مع القطاع الخاص في 1412هـ، ثم بنظام السماح بفتح عيادات خاصة للأطباء الاستشاريين في المرافق التي يعملون بها في 1422هـ. ومنذ عام 1394هـ تمنح الدولة قروضاً للقطاع الخاص لإنشاء مستشفيات خاصة. كذلك تَمّ تخصيص الإدارة بعقود مع شركات التشغيل الجزئي والكلّي. وقد تميّز التشغيل الكليّ من قِبَل الشركات الكبرى بتقديم خدمة عالية الجودة، ولكن عالية التكلفة. كذلك كان يتم شراء خدمات معينة من القطاع الخاص - مثل نسبة من الأسرة أو علاج حالات طارئة. التأمين الصحي كان قضية مطروحة منذ ثلاثين سنة، على خلفية الظروف التي استجدّت. إذ نقصت إيرادات النفط وظهرت الحاجة إلى تخفيف عبء التكاليف على الدولة في وقت تجاوز فيه عدد الوافدين ربع سكان المملكة وشغلوا بمستشفيات وزارة الصحة 28 % من أسرتها، حتى أن وزارة الصحة عام 1414هـ منعت مستشفياتها بالمدن التي يوجد بها مستشفيات خاصة من قبول عمالة مؤسسات القطاع الخاص الوافدين. ثُمّ صدر نظام الضمان الصحي التعاوني في 1420هـ الذي ألزم مؤسسات القطاع الخاص بالتأمين على العمالة الوافدة وأسرهم، وفي 1423هـ أضيفت العمالة السعودية وأسرهم، وبدأ تطبيقه في 1427هـ. وهو يواجه حاليّاً مشكلتين:
الأولى ازدواجية الخدمة لأن المواطن المؤمّن له يمكنه تكرار الخدمة مرّتين بالقطاع الخاص والقطاع العام.
الثانية ضعف التغطية، إذ يطبّق على عمالة المؤسسات، وليس على عمالة المنازل والأفراد، ولا يشمل المتعاقدين مع الدولة. ولا يغطى من المواطنين سوى 15 % (ثلاثة ملايين بأسرهم - تقرير مجلس الضمان عام 2015). وينتج من ضعف التغطية تفاوت في الخدمة وتفاقم لمشكلة الازدواجية. وكلاهما -ازدواجية الخدمة وضعف التغطية- مرتبطتان ببعض، لذلك فالتأمين الشامل يقلّص الازدواجية وإهدار الموارد، وينظّم تقديم الخدمة. وفي هذا السياق ربما برز سؤالان: الأول هل يستطيع القطاع الخاص - الذي يمثل حاليّاً 30 % على الأكثر من حجم القطاع الصحي بالمملكة - استيعاب أعداد غفيرة من المؤمّن لهم؟ والثاني مدى تأهيل البيئة التحتية بالمرافق الصحية الحكومية للتعامل مع التأمين الصحي. فهل ننتظر في تطبيق التأمين الصحي الشامل حتى يتوسّع القطاع الخاص بما يكفي، أو حتى إتمام التخصيص في الخدمات الصحية الحكومية؟ الحل ليس في الانتظار، بل في بدء عملية التأمين الصحي الشامل من حيث انتهت إليه الإرادة السياسية في رؤية 2030 مثل: (توسيع قاعدة المستفيدين من نظام التأمين الصحي)، وما تمخّض عنها من أهداف إستراتيجية لوزارة الصحة ومبادرات مثل زيادة حصة القطاع الخاص من الإنفاق بطرق تمويل بديلة وتقديم الخدمات. وبرامج الضمان الصحي وشراكة القطاعين العام والخاص. هذه الشراكة يمكن إنجازها في المستوى الأول للرعاية الصحية عن طريق تطبيق نظام تأمين صحي شامل بلا معوقات كبيرة. فالمرافق الطبية والموارد البشرية في القطاعين متوفرة (2300 مركز صحي بوزارة الصحة تقريباً، بها 9300 طبيب، و2400 مجمع طبي خاص تقريباً بها 18000 طبيب). إن عماد النظام المقترح هو تسجيل الأسر السعودية في كل حيّ على أن تختار إمّا التسجيل بمركز صحي حكومي وتصرف لها بطاقة صحية بلون معيّن تعتبر بطاقة التأمين الحكومي وتدفع كلفتها الدولة، وتؤهل لمراجعة المرافق الحكومية، وعند ما يرغب حاملها في مراجعة مرفق خاص يدفع من جيبه 30 % من كلفة الزيارة؛ أمّا إن سجلت الأسرة بمجمع طبي فتحصل على بطاقة صحية بلون آخر تعتبر بطاقة للتأمين المختلط، حيث تدفع الدولة مقدار كلفة التأمين الحكومي ويدفع حاملها فوق ذلك لصندوق التمويل (المقترح في مشروع بلسم) 30 % -أي 330 ريال سنوياً لو كانت الكلفة ألف ريال للفرد- ويراجع بها المرفق الخاص بدون دفع مباشر. والأدوية تصرف بموجب الوصفة الطبية من صيدلية تتعامل مع التأمين. وترسل لصندوق طلبات التعويض من المرفق الحكومي لاعتمادها بميزانيته، ومن المرفق الخاص لدفع مطالبته. ومن الضروري أن تُحدّد أسعار الخدمات الطبية بناء على مفاوضات دورية بين ممثلي القطاعات الطبية وصندوق التمويل. تصوّر مختصر كهذا يلزمه تفاصيل أكثر. وهناك متطلبات لا بُدّ منها، مثل التسجيل كشرط لصرف بطاقة تأمين، والتزام المرافق العامة والخاصة بمعايير الجودة والقيام بوظائف طب الأسرة. وتكوين جهاز رقابي لضمان التطبيق السليم لهذا التنظيم. أمّا المزايا المتوخّاه فهي توفّر فرص الاختيار والمرونة وتقليل الهدر وتنظيم الخدمة وتوحيد الملف الطبي بموجب البطاقة الصحية، والاستفادة من وفرة موارد القطاع الخاص في المستوى الأول للرعاية الصحية، وإمكانية تقليص عدد المراكز الصحية في المدن على الأقل، وانتقال عدد من فنيّيها وإداريّيها للمجمعات الخاصة لتكملة كوادرها وفقاً لمعايير الجودة.
وقد توجد خيارات أفضل من هذا، فلا تدعوا المواطنين ينتظروا طويلاً.