تركي بن إبراهيم الماضي
ظل الشعر، ولعقود طويلة المهيمن على ذاكرة العرب، ليس فقط كشكل تعبيري عن الوجدان، وإنما سفر ضخم يحفظ تاريخ العرب الشفهي، في كل ما مرت به في عصورها السحيقة والقريبة. وحتى إلى فترة ما قبل انتشار التعليم النظامي في الوطن العربي، كان الشعر لا يزال متوسداً مكانه بكل اعتزاز.
جرّب كثير من العرب النثر، واختاروه طريقاً جديداً، للتعبير عن الحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي اكتست ملامح مجتمعات ما بعد نكبة فلسطين. كان الشعر عزيزاً، ولا يزال، لكنه تراجع، وفقد فرصته في أن يكون ديوان العرب الوحيد. وحفظ للشعر حياته، بعض القصائد الجميلة، تلقى هنا وهناك، تذكِّر الناس بأن للشعر مجده الباقي. تسلّم النثر زمام المبادرة، في فترة ما بعد النكبة، وواصل المسيرة بأقلام عربية مميزة، سجّلت للتاريخ، مواقف لا تُنسى، وحفظت للعرب جزءاً من ذاكرتهم المثقوبة. كانت فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الميلادية فترة الكلمة المنثورة، أدباً ودراساً ومقالة، زاحمها الشعر قليلاً، لكن صوت النثر أقوى من صوت الكلمة المموسقة.
وفي العصر الحديث، الذي شهد انتشار شبكات التواصل الاجتماعية، وتأثيراتها على إنسان هذا الزمان، فقد سحبت هذه الشبكات البساط من الشعر والنثر، في أن يكونا الحافظين لذاكرة العرب. أصبح لكل فرد متعلِّم في الوطن العربي، القدرة على أن يسجّل في صفحته على الإنترنت أو في رسالته على الشبكات الاجتماعية موقفه وقراءته ورأيه، في كل ما يراه يحدث من حوله. لم يعد القارئ أو المستمع أو المشاهد مجرد مستقبل للمعلومة أو الرأي كما كان يحدث سابقاً، بل أصبح متفاعلاً لما يجري حوله. انتقلت صناعة التأثير من قادة الرأي العام، إلى أن يكون الشارع هو صانع تأثيره، وهو الموجه لما يريد أن يؤثِّر عليه. اختفت العلاقة التقليدية بين المثقف كصانع تأثير، والشارع يتحرك وفق ما يراه المثقف. أصبح التأثير من الشارع وإلى الشارع يعود. ولأن العلاقة تفاعلية، فلا أحد يملك زمام التأثير وحده، كل فرد مشارك هو ضمن مشاركين آخرين، وفاعلاً ضمن آلاف الفاعلين غيره. لم تعد النجومية لأشخاص بعينهم، لكنها أصبحت لموجات بشرية، تتشكّل سريعاً، وتتضارب مع آراء أخرى، ودون أن تفقد زخمها، تتأثر كما تؤثّر وبواسطة المشاركين بها.
ديوان العصر الجديد، للتو بدأ فصل جديد من حكاية العربي المختلف. الصوت لم يعد بيد شاعر القبيلة وحده. الصوت غدا الآن بيد القبيلة كلها. من أراد الصراخ، أو النشيد، أو إعلان الحرب، سيُسمع صوته بلا شك.