يقصد باجترار الأفكار Rumination Thoughts في علم النفس أي عملية جرّ كل فكرة لفكرة أخرى بشكل متتابع وسريع دون أن يعي صاحب التفكير بتلك التنقلات، ويتقاطع مفهوم اجترار الأفكار بمفهوم الأفكار التلقائية Autonomic Thoughts، إلا أن الأفكار التلقائية تصف حالة الأفكار عندما تأتي للذهن دون إرادة مقصودة في استدعائها، بينما تصف حالة الاجترار وضعية الأفكار التلقائية عندما تتخذ صفة التتابع المتسلسل.
وما من شخص أياً كان نمط شخصيته إلا وله نصيب من حالات يجتر فيها ذهنه الأفكار اجتراراً، وما يجعل الشخصيات تتفاوت فيما بينها هو محتوى هذه الأفكار التي تجتر ومدى تكرار النوبات الاجترارية ومدى تسلطها على الذهن. ويمكن تشبيه اختلاف درجة الاجترار بكرة الثلج الصغيرة حينما تدحرج، فالبعض يبقيها على حجمها الصغير والبعض تكبر لديه لحد ما والبعض يبلغ كبرها حجم الجبل.
فمثلاً تجد أن الاجترار عند القلقين والمكتئبين أشد وأعنف من الأسوياء إذ تلعب مشاعر الخوف عند القلقين في رسم منعطفات انفعالات المخاوف، بينما تلعب مشاعر الذنب والدونية عند المكتئبين في رسم منعطفات انفعالات الكآبة والضيق. وما يجمع صفة الاجترار عند القلقين والمكتئبين هو أن اجترارهما يزفر انفعالات نارية تلسعهما وتذيقهم ويلات العذاب.
ولكي نحول التفكير على النحو الاجتراري إلى مسألة مسلية، فتعالوا بنا نجتر معاً أو نراقب صاحب لنا اجتر فكره في واقعة معينة، ولنتأمل خلال هذا المثال كيف بلغ وقاده تفكيره إلى منعطفات ذكية في أحيان وغبية في أحيان، لكن فكره انتقل بالشكل الاجتراري.
ولكي نتخيل ما يحصل، فلنعش معه عالماً افتراضياً وهو أن ندخل إلى فكره ونراقب مجريات وتنقلات أفكاره وكيف بها تنتقل من فكرة إلى أخرى. لنفترض أن بداية الأفكار هي حيوان الحمار. قالت له أفكاره في تسارع بشع وعجيب النص التالي: أن الحمار عندما يغضب فإنه يرفس ورفسته تلك ينتج عنها دائرة، والدائرة ثنائية البعد وعندما تحولها إلى ثلاثية البعد تصبح كرة، والكرة اسم مشتق من كوريا، وكوريا على وزن سوريا، وسوريا بلد عربي يحدها من الغرب فلسطين، وفلسطين دولة احتلها اليهود ومن قبلهم النصارى، وكانت وقعة النصارى مع المسلمين وقعة تاريخية كان فيها صلاح الدين الأيوبي قائداً للمسلمين، ورتشارد قلب الأسد قائد النصارى، وهكذا استطاعت اجترارات فكر صاحبنا أن تبدأ بفكرة الحمار وتنتهي بالأسد، وذلك في عمليات ربط وتنقلات ذهنية يحسبها العقل أنها منطقية وهي تتخبط في عشوائية غريبة. إن ما تقرأه على أنه نكتة مضحكة هو مشابه لما يقوم به العقل عند ربطه لمادة مفككة ويصيغها تحت نسيج موحد الترابط ومتسق المعاني. هكذا تبنى الأفكار اللاعقلانية من خلال أداة اجترارات ترابطية سريعة وعشوائية.
وعليه فليس بمستغرب على أحد أن يقابل شخصاً للوهلة الأولى ويشعر بضيق شديد دون أن يعي سببه، إذ قد يكون منشأ الضيق نابعا من أفكار مجترة خفية ولدت ترابطات عديدة من أفكار سلبية اجترها العقل بشكل تلقائي وسريع حتى أنهاها بفكرة حارة ولدت مشاعر الضيق، المشكلة الكبرى في هذه الاجترارات أن صاحبها لا يعي أول فكرة بدأها ولا آخر فكرة أنهاها لكنه يعي فقط أنه منزعج ومتضايق من هذا الشخص وأنه لم يرتح إليه.
حقيقة لابد من تأكيدها بأن عقلنا بتفكيره اللاواعي (المستخبي) هو المخادع الأكبر وهو اللص الخفي الذي يقف خلف انفعالاتنا. أن ما يحزننا ويسعدنا وما يغضبنا ويهدئنا وما يخيفنا ويطمئننا ليس هي طبيعة الأحداث التي تجري من حولنا، وإنما هي أفكارنا التي يولدها عقلنا ويصيغها على النحو الذي يريد.
والحقيقة الأخرى، أنه لو كان بإمكاننا مراقبة تفكيرنا برادار دقيق لتبين لنا مواقع الأفكار التي أشعلت فتيل الانفعال، ولو كان لدينا هذا الرادار لغيرنا من مقولتنا «أننا حزينون ولا ندري لماذا؟» إلى القول «إننا حزينون لأن فكرة ما خرجت عن النص».
إن كشف هذا الرادار قد لا يحتاجه الأسوياء لكون أفكارهم في الغالب تتماشى مع إرادتهم، لكن ربما يحتاجه المكتئبون والقلقون والذي يمكنهم من التبصر بسبب اختلال مشاعرهم.
أن هذا الرادار ليس شيئا افتراضيا بل تحدث عنه علماء النفس وأسموه بالميتاكوقنشن Metacognition ولعلنا في فرصة أخرى نلقي الضوء عليه.
- أكاديمي سعودي