د. محمد خيري آل مرشد
إن لصرح الحضارة الانسانية التي نعيشها اليوم ركائز وأعمدة، ما كان لها أن تكون على هذا الشكل بدونها، وحيث إن بعض شعوب الأرض دون غيرها ساهمت في بناء وتثبيت هذه الركائز، فلا بد لنا من معرفة فضلها علينا، فلمعرفة دور الأمم في بناء الحضارات كان لابد من أن يسأل كل منا نفسه عما قامت به بعض الأمم من دور في تكوين الحضارة الإنسانية، وإن كان الاطلاع في الحدود الدنيا يساعد ذلك كثيرا في احترام الآخر، عندما نعرف أن أسلافه قدموا لنا جزءا مهما من حضارتنا المشتركة.. كيف لا وهذا الآخر هو قريب أو جار، فلابد من أن هذه المعرفة بالفضل تنعكس إيجاباً على علاقات الشعوب ببعضها ترابطا وتماسكا وتعاونا، ساهمت الشعوب سابقا ولاحقاً في بناء صرح الحضارة الانسانية العلمي والثقافي والاجتماعي والفلسفي والتقني وغيره الذي ننعم بخصائصه اليوم، إلا أن لبعض الشعوب فضلا أكثر من غيرها، حيث ساهمت ببناء جزء أكبر من هذا الصرح؛ بل منها من أسست له أسسا تابعت بناءه إلى يومنا هذا ولا يمكن الاستغناء عن هذه المساهمة بشكل، ولنذكر بعض إسهامات وآثار حضارة بلاد الشمس..
هل لنا أن نعرف من أول من زرع وحصد وطحن القمح، أي أول من عرف الخبز؟ إن أول من زرع القمح وطحنه هم سكان بلاد ما بين النهرين والشام، حيث وجدت أقدم آثار للقمح المزروع في تل أبو هريرة في محافظة الرقة السورية.. ولقد بينت بعض الدراسات الأثرية أن بلاد الشام هي أول موطن لشجرة الزيتون في مدينة إيبلا..
فهل لنا أن نعرف من أول من استخدم الأبجدية وطورها؟ وهل كان من الممكن قيام حضارة إنسانية أصلا بدون أبجدية؟ إن أقدم المدن المأهولة في التاريخ هي مدن حلب ودمشق وأريحا، كما أن أول كتابة هي المسمارية السومرية جنوب الرافدين، فإن أول أبجدية متكاملة عرفها التاريخ هي الابجدية الأوغاريتية تتكون من 30 حرفا صوتيا، حيث كان الفينيقيون هم أول من استعمل الحروف الابجدية فمن أوغاريت أبحرت السفن الفينيقية إلى كريت وقبرص وقرطاجة وغيرها، تحمل التجارة وتحمل العلم الذي نشروه في خط تجاراتهم للعالم المجاور والأبعد، ويعتبر أن شكلين من الأبجدية الفينيقية هم أساس كل الأبجديات والمسبب الأساسي لتاريخها، وبهذا فإن منطقة بلاد الشام تعتبر مهد الحضارات التي أغنت الحضارة الانسانية.. أضف أن أقدم نوتة موسيقية اكتشفت أيضا في أوغاريت على لوحات مسمارية تعود لأكثر من 5400 عام وهي السلم الموسيقي لنشيد زوجة إله القمر.. دائما نقول من أراد أن يرى التاريخ بعينيه فعليه أن يدخل إلى ذلك من بوابة بلاد الشام العريضة، فهناك نجد أنفسنا نعيش في التاريخ ونمتزج به، إن كل ذرة من ترابها تشكل شمعة تضيء كل خطوة نمشيها على طريق الحضارة الإنسانية، قامت وازدهرت في بلاد الشمس حضارات كثيرة هي من أعرق وأهم الحضارات في التاريخ البشري، لنتعرف على بعضها وهي مملكة اوغاريت (رأس شمرة قرب اللاذقية)، مملكة ايبلا (تل مرديخ)، ومملكة ماري (تل الحريري قرب البوكمال)، مملكة كانا راميتا افاميا، لنتعرف على تاريخ العموريين، الكنعانيين، الفينيقيين، الآراميين، والحيثيين، ناهيك عن حضارات الإغريق والرومان.. فتشهد عليها إلى يومنا هذا شامخة دورا اورابوس (الصالحية قرب مدينة البوكمال) وتدمر الشهيرة وبصرى الشام وغيرها من أماكن لا تعد على امتداد أرض بلاد الشام.. ومن الناحية الدينية فقد كانت الشام منطلقا خاصا للمسيحية الذي انطلق منها بولس «الرسول» لنشر المسيحية إلى أوروبا.. في سورية فقط يمكنك أن تسمع اللغة الآرامية لغة سيدنا المسيح عليه السلام، فما عليك إلا أن تزور معلولا الجبلية (قرب دمشق) لتسمعها، أضف أن دمشق هي أقدم عاصمة في التاريخ، لا تكاد تخلو منطقة من مناطق سورية من المواقع الأثرية.. هنا كان المنجل الأول وكان المحراث الأول، وهنا قامت المدن الاولى في التاريخ البشري.. سورية كلمة يونانية تعني الشمس، فهذه هي بلاد الشمس التي قدمت الدفء الحضاري للإنسانية جماء.. إن إبداعات أهل بلاد الشمس ساهمت بشكل أساس وكبير في تحديد المعالم الأولى للإبداع البشري ككل، وغاية هذه الكلمات قبل كل شيء ليس التغني بالماضي الناصع لهذه البلاد، بل تسليط بعض الضوء عليه للتعريف به قليلا، وهو أبسط الحق علينا.. ما دعاني لكتابة هذه الحروف عزيزا قال لي (سوريا راحت) بعد أن أصابها ما أصابها من جراح، سورية لم ولن تروح يا عزيزي فقد مرت عليها أقوام وحضارات وشعبها بمكانه الأصل فيهم السرياني والعربي، فقد يمر فوق ترابها المحتل والمجرم والطغاة فتدفنه في بعض صحرائها، وتشعل للآخرين شمعة جديدة في الفكر والنور وتبني حضارة للإنسان.. يقول عالم الآثار الفرنسي اندريه بارو لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان وطنه الأم وسورية..!