د. تنيضب الفايدي
تعوّد الكاتب خلال أكثر من أربعين عاماً على زيارة مواقع تاريخية في الوطن الغالي، وعادة يكتسب المعلومة ميدانياً، ومن تلك المواقع تيماء وقد ارتبطت تيماء بالتاريخ، وذكرت في أقدم المصادر، وربّما يرجع تاريخ هذه المدينة إلى العصور المبكرة للحضارات، وهذا المقال لا يتعلق بتاريخ تيماء ولا بحضارة تيماء، وإنما يتعلق بالحبّ وهي مكان يدخل إلى القلب دون استئذان، ولعل مصدر هذا الحبّ أهل تيماء، وقد زُرتها في بدايات الصيف واخترت الصيف لأنه مجمع القبائل خلال العصور التاريخية، ووجدت الكرم والأنس في أهلها، وإن كانت زيارتي قصيرة جداً، إلا أنني أحببتُ تيماء وأهلها، وقد رصد الشعراء تيماء قديماً وربطها بعضهم بالصيف، وقد جاءها ولكن لم يجد محبوبته ليلى:
وَخَبَّر تُماني أَنَّ تَيماءَ مَنزِلٌ
لِلَيلى إِذا ما الصَيفُ أَلقى المَراسِيا
فَهَذي شُهورُ الصَيفِ عَنّا قَدِ اِنقَضَت
فَما لِلنَوى تَرمي بِلَيلى المَرامِيا
ومع بُعد المسافات بين المواقع التالية إلا أن الشاعر كان يتتبعها؛ لأنها منازل لمحبوبته، ومن تلك المواقع تيماء:
يومٌ بحزوى، ويومٌ بالعقيق
وبالعُذيب يومٌ، ويومٌ بالخليصَاءِ
وتارة تَنْتَحِي نجداً، وآونةً
شعبَ الغُويْرِ، وطَوْراً قصرَ تيماءِ
وقد اشتهر بئر هداج بتيماء ويطلق عليه شيخ الآبار وقد ألفت الكتب في تاريخ هذه البئر وأصبح رمزاً للكرم فما أكثر القصائد التي قيلت فيه، ولا سيما من الشعر الشعبي، ويعود تاريخ البئر إلى منتصف الألف الأول قبل الميلاد وذلك اعتماداً على مقارنة طريقة بنائه مع العديد من المعالم الأثرية المؤرخة كقصر الرضم والسور وقصر الحمراء التي تعود إلى حكم الملك البابلي (نابونيد)، ولعلّ للفظ هداج صلة بالمعبود (هدد؟ أدد؟ ود؟) الذي كان معروفاً لدى الساميين بأنه معبود المطر والقمر والحب. وأخذت بئر هداج شهرة كبيرة، إذ كان له دور كبير في إحياء واحة تيماء عبر آلاف السنين، حيث وصفت تيماء بأنها أرض هائلة البساتين تسودها شجرة النخيل المباركة وتنتقل المياه من البئر بواسطة إحدى وثلاثين قناة تتفرع إلى البساتين على مختلف مواقعها، إضافة إلى أن البئر كان يلبي حاجات الكثير من البادية الذين يقطنون المنطقة والذين يردونه للسقيا لهم ولماشيتهم. وقد ذكر بئر هداج أكثر المؤرخين. أما الرحالة الغربيون أو المستشرقون الذين زاروا البئر فقد خصوا هذا المعلم بشيء مما دونوه عن تيماء، وممن وقف عليه ووصفه من الرحالة الغربيين هوبر وأويتنج. وقد أشار أويتنج إلى تلك البئر حيث يقول: «قمنا في حوالي الساعة العاشرة بجولة خلال المدينة، وكان هدفنا الأول هو رؤية بئر هدّاج المدهشة والمعروفة في أرجاء جزيرة العرب، والذي جاء ذكرها أيضاً في الكثير من الأشعار، ففي وسط مساحة يتخللها حوالي ثمانين جدولاً يوجد بئر دائرية الشكل قطرها يصل حوالي عشرين متراً، وجزؤها العلوي مطوي بالحجارة، وعمق سطح مائها الذي تنبع منه العيون المتدفقة حوالي خمسة عشرة متراً، وفي كل اتجاه من اتجاهات البئر الأربعة يسير ما بين 12-15 جملاً -أي حوالي 60 جملاً- في ممر طويل ساحبة الماء من الأعماق». ولكل قبيلة مجموعة من الجمال التي تسحب الماء، وإضافة إلى ما يوفره البئر من مياه الشرب فماؤها يسير عبر سواقي لريّ آلاف من أشجار النخيل في واحة تيماء المشهورة منذ القدم. وفي عام1951م زار فلبي بئر هداج حيث يقول عنه: «إن أهالي تيماء قد قالوا له إنهم يرفعون المياه من البئر بواسطة تسعة وتسعين جملاً دفعة واحدة، لكنه ذكر أنه شاهد عند زيارته لتيماء ثلاثة جمال فقط تقوم برفع المياه من البئر. وبئر هدّاج من أكثر الآبار ذكراً في الأشعار وسبب ذلك شهرته في العطاء وغزارة الماء، فاستخدم الشعراء في قصئدهم على مختلف الأغراض الشعرية والبلاغية واستخدموا صفاته للإشادة أو النصح أو الرثاء أو الغزل أو غيرها من الأغراض الشعرية، ويأتي السموأل كأقدم من أشار إلى هذه البئر حيث يقول مفاخراً ببئر تيماء وحصنها:
بنى لي عادياً حصناً حصيناً
وماءً كلما شئت استقيت
وقد مرّ امرؤ القيس (الملك الضلّيين) وأودع سلاحه لدى السموأل، وكانت قصة المحافظة على السلاح من أروع القصص في الوفاء.