ياسر صالح البهيجان
الانفتاح الفكري على الآخر المختلف قيمة وجودية، إِذ يأتي الاختلاف بوصفه محفزًا لمدّ جسور التواصل والتعارف، ومتى ما تحوّل الاختلاف إلى حالة توجّس فإنه يصبح مرضًا اجتماعيًا وعلّة ثقافيّة ودلالة على انعدام ثقة أمة من الأمم بذاتها وتاريخها وهويّتها.
معظم المجتمعات المتقوقعة على ذاتها لا تزال تجتر مأساتها التاريخيّة ونكباتها التي عانت من مرارتها خلال حقب زمنيّة سحيقة، عندما كانت المجتمعات الإنسانية بدائيّة يتقاتل أفرادها على مواطن الماء والعشب، وتثور ثائرتها إذا ما سلبت إحدى قوافلها أو سبيت امرأة من نسائها، وفي تلك الحقبة كان التوجّس مشروعًا في ظل غياب منظومة الدولة والقوانين، أمّا في العصر الحديث فالظروف اختلفت كليًا، ومسببات الخوف من الآخر هي الأخرى تلاشت، ويستثنى من ذلك بالتأكيد الآخر الذي يصرّح بالعداء والكره.
كان الزعيم الروحي للهند ماهاتما غاندي يقول: «إن قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط حتى وإن لم تكن تعي ذلك لكن بمجرد أن ترغب في الانفصال تجف تماما»، والحال كذلك بالنسبة للمجتمعات، فهي عندما تختار الانزواء عن العالم والاعتقاد بخصوصيّتها المتفرّدة عن الآخرين يذبل دورها الفكري والثقافي والمعرفي وتصبح خارج حدود خريطة الوجود، حتى إنك لو استوقفت إنسانًا مثقفًا في إحدى الدول البعيدة وسألته عن ذلك المجتمع لنظر إليك باستغراب، وأخبركَ بأنه لم يسمع قط بوجود مجتمع يحمل اسمًا كهذا.
التأثير الكوني يستلزم بالضرورة الانفتاح على الآخر، وحركات الترجمة في العصور الإسلامية القديمة ونقل المعارف من اليونانية إلى العربيّة تدل على أهمية التعاطي مع الآخر المختلف تأثيرًا وتأثرًا، وهو ما صنع قيمة وجوديّة للمجتمع والإنسان العربي والمسلم آنذاك، ولّما تخلت الأجيال اللاحقة عن دورها وانشغلت في هجاء ذاتها وأفراد مجتمعها ضلت الطريق ودخلت في سجالات مذهبية وطائفيّة أسهمت في تخلفها عن ركب الأمم المتحضّرة، وباتت عالة على الإنسانية وعلى نفسها كذلك.
المجتمعات العربية والإسلامية أضحت بحاجة إلى خطاب تجديدي يغيّر منظومة أفكارها وطريقة معالجتها للقضايا الوجوديّة والنوازل الكونيّة، لتتأسس أجيالها الجديدة على مبادئ التفكير الحديث بما ينسجم مع المجتمعات المتنوعة ذات الثقافة المتعددة، ليتمكن أبناؤها من تجاوز أزمة الثقة بتراثهم وماضيهم، ويواجهون الآخر في ميادين المعرفة بسلاح الفكر والتنوير والحوار العقلاني الذي يؤمن بقيمة التشارك الإنساني وحريّة التعبير المنضبطة بضوابط العقل والمنطق والأخلاق.
الوضع الفكري الراهن في العالم العربي ينقسم فيما بين متعصب لتراثه حدّ نبذ الآخر ورفضه رفضًا تامًا، وبين مقبل على الثقافات الأخرى إلى درجة ازدراء هويّته وماضيه ووصمهما بالتخلف والرجعية، وكلا الطائفتين لا يمكنهما النهوض بالثقافة والمعارف العربية والإسلامية على الرغم من اختلاف موقفهما إزاء التراث والهويّة؛ فهما نتاج تطرّف فكري موسوم بطغيان خطاب لا عقلاني يُغفل السياقات الحضاريّة في صناعة أي واقع جديد.
كانت هناك محاولات جادّة من مفكرين عرب لتجديد الخطاب الفكري خلال العقود الماضية، لكن معظمهم فشل نظير إهماله السياق التاريخي العربي، وإن كان ليس من المنطقي استزراع نخلة في منطقة الاسكيمو لأن البيئة المناخيّة غير مهيأة لاستقبال نبتة صحراويّة، فإن الحال كذلك لتلك الأفكار المبتورة من سياقها الثقافي الغربي والمُراد حقنها في جسد الثقافة العربية، ومن هنا تبرز أهمية إنشاء أجيال جديدة تُدرك تحولات تاريخ ثقافتها لتبدأ بغرس البذور المتوائمة مع المناخ الفكري العربي في ضوء منهجيّات علميّة ومعرفيّة لا تنفصل عن متطلبات المرحلة الحضارية الحاليّة وتستشرف في الآن ذاته الطموحات المستقبلية وما تتضمنه من تحديات كبرى.