اتصل بي شيخنا عبدالمحسن العباد مدَّ الله في عمره على طاعته ليدعو ابنه لحضور مناسبة عزيزة قائلاً يوم الأحد ليلة الاثنين الموافق 10-12 سيكون أستاذاي اللذان تعلمتُ منهما أثناء المرحلة الابتدائية في ضيافتي!
فرحتُ بهذه المناسبة جداً, وجال في خاطري معاني الوفاء للمشايخ والمعلمين والأساتذة ومن كان له فضل في تعلُّم المرء، وتذكرت كلمة شيخنا عبدالمحسن حين مُنِحَ جائزة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله للسنة النبوية في قوله: (في كل ليلة وأحياناً في حالات أخرى أدعو بالمغفرة لأصناف من الناس من الأقارب وغيرهم، آخر هذا الدعاء: وشيوخي وتلاميذي وسائر المسلمين والمسلمات..).
وورد على خاطري قول الإمام أحمد لابن الشافعي رحمهم الله: (أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم في السَّحَر).
ما أجمل الوفاء! وما أجمل ساعاته! وما أحلى أوقاته!
كنتُ أترقب موعد شيخنا حتى حضر! ذهبنا إلى المكان المعد للاحتفاء جاء الضيوف ودخل أستاذ الشيخ الأول وهو الشيخ محمد بن عثمان البشر حفظه الله (المولود عام 1352هـ), ثم جاء الأستاذ الآخر وهو الشيخ محمد بن أحمد الملحم حفظه الله (المولود عام 1350هـ).
جلس الأول عن يسار الشيخ والثاني عن يمينه, بدأت دقائق الوفاء لطيفة خفيفة تحدَّث شيخنا الشيخ عبدالمحسن حفظه الله مبيناً أنها فرصة سعيدة, ومرحباً بمعلميه, شاكراً تلبية الدعوة, ذاكراً أن المدرسة الابتدائية التي درس فيها افتتحت عام 1368هـ, وكان الشيخ محمد البشر حاضراً وقت افتتاحها... وذكر الشيخ غفر الله له أنه استفاد كثيراً من أُستاذيه, وتعلَّم العلوم المفيدة لاسيما ما يتعلق بالإملاء والخط والمطالعة من الشيخ البشر, ومن الشيخ الملحم الحساب والهندسة.
ومن لطيف ما ذكره شيخنا عن مدرِّسه الشيخ الملحم أن مفتشاً حضر وسأل الطلاب في درس الحساب الذي يتولاه الشيخ الملحم, فأجاب الشيخ عبدالمحسن عن السؤال إجابة صحيحة فكافأ المدرّسُ تلميذه (بواحدة من الطباشير) التي يكتب بها على السبورة, قال الشيخ عبدالمحسن وكانت جائزة نفيسة!
وذكر الشيخ عبدالمحسن حفظه الله أنهم في وقت الدراسة كانوا في قِلَّة ولم يكن عندهم شيء من المال, وذكر أنه لما كان في السنة السادسة وكانت تلك المرحلة تتطلب أدوات الهندسة وغيرها, طلب من أحدهم أن يأتي بها إليه من الرياض, وكانت قيمة تلك الأشياء تسعة ريالات, فكانت ديناً في ذمة الشيخ, قال الشيخ حفظه الله:( هو أول دين حصل علي), وقد أوفى الشيخ دينه بأن أعطى صاحب الدين (خيشة جراد)! لأنه لم يكن عنده مال يستطيع دفعه لصاحب الدين.
فصاحب الدين يبيع الجراد ويستوفي منها, والخيشة التي جُمِع فيها الجراد تكون لصاحب الدين هدية من الشيخ.
ومن اللطيف أن الشيخ محتفظ بجملة من كراساته ودفاتره التي استخدمها في المرحلة الابتدائية!
وأخبرنا الشيخ عبدالمحسن حفظه الله أنه درس الكتاتيب قبل الابتدائي عند الشيخ الرومي رحمه الله.
ألقى بعد ذلك الشيخ محمد البشر حفظه الله كلمة: جميل لفظها, لطيف حرفها, خفيف وقعها, ومما لفت نظري إليها, وأسر سمعي منها, أنه كلما ذكر الشيخ عبد المحسن في كلمته قال: (شيخنا الشيخ عبدالمحسن), وذكر حفظه الله أن المدة التي أمضاها في الزلفي ليست طويلة, لكن وفاء الشيخ عبدالمحسن أنه لا يزال يذكرها ويتصل بأستاذه لأجلها.
وذكر الشيخ البشر أنه لما كان مديراً للمدرسة الثانوية ببريدة ما أحسَّ إلا بمدير المعهد العلمي يأتي إليه ومعه الشيخ عبدالمحسن الذي كان حريصاً أن يسلم على أستاذه.
وقال الشيخ البشر: زرت الشيخ عبدالمحسن في حلقته في المسجد النبوي فرحب بي, وقال لطلبته الذين حوله: هذا شيخي وأستاذي.
رأيتُ الشيخ البشر يقبل رأس شيخنا عبدالمحسن.
ثم جاءت كلمة الشيخ الملحم والتي تولى إلقاءها نيابة عنه أحد أبنائه, وكانت كلمة تنضح شكراً على هذا الوفاء الذي لا يستغرب من معدنه.
وحقيقة أن أحرفي لا تبلغ ما في نفسي مما رأيته وسمعته في هذا الموقف المثالي, فلعله يكون درساً للتلاميذ في معرفة الوفاء لمعلميهم.
ورحم الله ذلك الجيل معلمين وطلاباً الذين أثروا وطنهم, ونفعوا أمتهم, وقاموا بالأعمال المناطة بهم.
رحم الله ذلك الجيل الذي عَلِم قيمة العلم, وصبر على التعلم, وأحسن العمل, وقام بالوفاء لبلاده وأساتذته.
رحم الله ذلك الجيل الذي كان قدوة حسنة, وتأريخاً مضيئاً.
وفي الختام أشكر شيخنا الشيخ عبد المحسن على دعوته، وأسأل الله أن يغفر له ويحسن إليه, وأن يبارك في عمره وعمله، وأشكره مرة أخرى على هذه اللوحة الوفائية التي ارتسمت في نفوس الحاضرين, وهذا الدرس التربوي الذي ينبغي أن نتعلم منه جميعاً, فقد كان درساً عملياً انهملت فيه دموع, وتأثرت به نفوس فجزاكم الله خيراً شيخنا, وأشكر أبناء الشيخ الكرام على حسن استقبالهم, وبشاشتهم, ولطفهم, وترتيبهم للحفل لا حرمهم الله الأجر, ووفقهم لكل خير.
وأسأل الله أن يجزي مشايخنا ومعلمينا وأساتذتنا عنا خيراً.
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء