عبدالعزيز القاضي
يا اهل الهوى وشلون سجّة هواكم
بالله عليكم كيف جاكم وجيتوه
والله لو يوم يصيّف غداكم
ويمركم غض النهد ما عرفتوه!
- محمد العبدالله القاضي
هذان بيتان شهيران نسبا إلى محمد العبدالله القاضي (ت 1285هـ), في (ص 54) من الجزء الثالث من كتاب (شعراء عنيزة الشعبيون) وجاء في مناسبتهما أنه: مرَّ على مزارعين كانوا يحرثون الأرض ويُغنّون ولكونهم لا يحفظون الأشعار يدمجون قصيدة بأخرى.
كما نسبا إلى الشاعرة مويضي البرازية المطيرية (ت 1266هـ) في مقالة كتبها أحد المهتمين في بعض المواقع الإلكترونية, مع اختلاف يسير في الرواية, حيث وردا كما يلي:
يا اهل الهوى وشلون ملة هواكم
بالله عليكم وين جاكم وجيتوه
والله لو يبطي عليكم عشاكم
ويمركم غض النهد ماعرفتوه
وجاء في مناسبتهما: «أنها عشقت وتولعت في محبوبها وقالت هذين البيتين …», وقيل إنها «سمعت أن كل من هب ودب من الشباب يشكون لوعة الغرام وهم لا يعرفون منه سوى اسمه, فقالتهما تسخر منهم».
وأظن أن أسلوب البيتين أقرب إلى أسلوب الرجل منه إلى أسلوب المرأة, فعبارة (يا أهل الهوى) و(غض النهد) نادرا ما ترد في شعر النساء.. كما أن روح الدعابة فيهما أقرب إلى أسلوب القاضي وروحه, فقد كان رحمه الله صاحب دعابة ومزح, وقصصه في هذا المجال كثيرة, ومنها قصته مع راويته إبراهيم الربيعي عندما قال له القاضي: إن أهل الروغاني (إحدى ضواحي عنيزة) أتوا إلينا يريدون أن نذكر لهم إماما يخطب ويصلي بهم الجمعة, وأراك تصلح لذلك يا إبراهيم. فاعتذر وقال: ليس لي معرفة بالخطابة, كما أني خجول لا أستطيع مواجهة الناس. فقال القاضي: لا تخف من انتقاد لما ستقوله في الخطب, ووالله لو تقول عندما تصعد المنبر (ياما حلا الفنجال مع طلعة الشمس) لقالوا (آمين) ولم يعلموا ماتقول!
وقصته مع (الرايس) المرتبطة ببيته الشهير:
والله من بيتٍ ورا الصدر مكنون
أخاف جهّيل الملا يدمرونه
وكذلك قصته مع (حموم وعكوم).. وغيرها مما يعكس روحه المرحة وحبه للدعابة.
أما قولهم إن سبب إنشائهما هو أن مويضي «عشقت وتولعت في محبوبها» فضعيف, ولا رابط مقنع بين محتواهما وهذا السبب. وأما قولهم إنها «حين سمعت أن كل من هب ودب من الشباب يشكون لوعة الغرام...» فربما صلح أن يكون مناسبة لهما، وأقول (ربما) لأن هذه مناسبة عامة, وفي ظني أن الخطاب في البيتين أقرب إلى الخصوص منه إلى العموم, أي أنه موجّه لمخاطب معلوم حاضر لا مجهول غائب, ومن يشكو لوعة الغرام ممن هب ودب, موجود في كل زمان ومكان, والبيتان يكادان يشيان بأنهما ثمرة موقف لا ثمرة فكرة. ثم إن البيت الثاني لا يستقيم إطلاقه على كل مدّعٍ للحب.
أما المناسبة التي قيل إنها سبب إنشاء القاضي لهما وهي أنه «مرَّ على مزارعين كانوا يحرثون الأرض ويُغنّون ولكونهم لا يحفظون الأشعار يدمجون قصيدة بأخرى», فلعلها الأقرب إلى الإقناع؛ لأنها مناسبة تعبر عن ردة فعل لموقف, ولأن تأخر الغداء مناسب جدا لكشف حقيقة عشق العامل الذي ربما كان الغداء وحده هو أجرته! واللوم في البيتين يُقصد به الدعابة وبيان المفارقة, لأنه لا يلزم أن يكون مردد قصائد الحب ومغنيها عاشقا مدنفا.
وعلى العموم فالبيتان رسميا للقاضي لأنهما وردا في مصدر معتبر وهو (شعراء عنيزة الشعبيون) المدون معظم محتواه من أوراق راوية معتبر هو المرحوم عبدالرحمن الربيعي (1402هـ), ابن راوية القاضي الذي ورد ذكره أعلاه, أعده أستاذ مختص, أديب وشاعر ومثقف واعٍ نحسبه أمينا معنيًّا بالتوثيق, مدركا لأهميته. والأصل في مجاميع شعراء القبائل أو المدن أن تكون موثقة لأن المنتمين إليها لا يرضون بنسبة ما ليس لشعرائهم إليهم.
وكنت اتصلت قبل نيّفٍ وعقد من الزمان بالأستاذ الشاعر سليمان الهطلاني, معد كتاب (شعراء عنيزة الشعبيون) وسألته عنهما فأكد أنهما للقاضي, وسألته: هل هذا الجزم من محفوظك أم من مصدر مكتوب؟ فأجاب أنه نقلهما من مخطوطة كانت ضمن مجموعات الراوية الشهير عبدالرحمن الربيعي, لكنهما ليسا بخطه. وذكر أبو هاني (سليمان الهطلاني) أن المخطوطة التي نسبت البيتين للقاضي ذكرت اسم المزرعة التي رأى القاضي فيها المزارعين وهم يخلطون في الأشعار أثناء غنائهم, وهي مزرعة (الهاشلي). قلت: وبعض مخطوطات الربيعي رحمه الله يرد فيها قصائد بخطوط أصدقائه وزوراه. ومزرعة (الهاشلي) أظن أنها لا تزال قائمة في وسط عنيزة..
وعلى العموم فإن كل هذا ليس سوى اجتهاد في التفسير ومحاولة لمعرفة الحقيقة, وربما كان البيتان لمويضي وتمثل بهما القاضي في ذلك الموقف إن كانت مويضي توفيت فعلا قبله, وربما كان لهما قائل آخر غير القاضي ومويضي.. وربما, وربما.