اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن الخدمة العسكرية الإلزامية، أو ما يطلق عليه التجنيد الإجباري أو الإلزامي هي خدمة وطنية استدعتها دواع أمنية وحسابات مستقبلية، وهذه الخدمة تستمد قيمتها من قيمة الوطن وشرف خدمته، وبالتحديد في مجال الدفاع عنه والمحافظة على أمنه واستقراره، علاوة على أن الانخراط في هذه الخدمة يجعل المواطن يشعر بقدسية الأمن الوطني ومسؤوليته تجاهه، وما يستدعيه هذا الأمر من ضرورة توطين النفس على البقاء دائماً على أهبة الاستعداد والتحسب لاحتمالات المستقبل من أجل مساندة القوات العسكرية والأمنية عندما يتطلب الموقف ذلك، وتمكينها من درء المخاطر التي قد يتعرض لها الوطن، وجعله في منأى عن أي تهديد محتمل، كما أن التحاق الأجيال بصورة متعاقبة في الخدمة الإلزامية يساهم في ترسيخ جوهر الانتماء الوطني وتكريس مفهوم الوطنية على المستوى الشعبي بفضل تأصيل الحس الأمني والربط بينه وبين الوعي الاجتماعي، وذلك في قالب وطني مع اعتبار هذا الثلاثي المكوّن من الحس الأمني والوعي الاجتماعي والانتماء الوطني، يشكل ثقافة وطنية وموروثاً شعبياً يتوارثه الخلف عن السلف انطلاقاً من مبدأ حب الوطن وصدق الانتماء إلى أرضه.
وأياً كان موقع المواطن وطبيعة عمله الذي يمارسه في مؤسسات الخدمة المدنية المختلفة فإن الخدمة الإلزامية العارضة تزرع في هذا المواطن شيئاً من قيم الجندية التي تجعله يتخندق في خندقها حتى لو هو بعيداً عنها ولم ينتظم فيها، ويعود ذلك إلى التأهيل المعنوي الذي أهله نفسياً ومعنوياً لأن يكون ظهيراً للجندي المنتظم، حيث يتخندق من خلال الخدمة الإلزامية في خندق الوطن الكبير الذي يمثل صورة مكبرة لخندق الجندية، وعطفاً على ذلك فإن الفرق بين المواطن الذي اختار مهنة الجندية والانتظام في الخدمة النظامية وبين ظهيره الذي ينتظر دوره من خندقه الكبير هو أن الأول التحق في الخدمة العسكرية النظامية مبايعاً النفس من خلالها على التضحية والفداء من خط الدفاع الأول في حين أن الثاني على أتم الإعداد والاستعداد لتلبية النداء من خط الدفاع الثاني.
وتختلف الحاجة إلى الخدمة العسكرية الإلزامية من دولة إلى أخرى حسب التهديد الذي يتربص بهذه الدولة، وحدود قدرتها على تحقيق أمن التهديد لحماية شعبها وأرضها، وتأمين حدودها، حيث إن احتمالية تهديد الأمن لدولة ما، وما يقابله من قدرتها على أمن التهديد، يتحكم ذلك في مدى حاجة هذه الدولة إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، كما تتأثر هذه المعادلة الأمنية بالقوة العسكرية النظامية المتوفرة ومستوى التقنية التي تتمتع بها هذه القوة، والتطور العلمي والصناعي، وخاصة في المجال العسكري، وقبل هذا وبعده فإن طبيعة الجوار، وما يحيط بالدولة من بحار والأهداف المؤدلجة والعداوات الموروثة والأقليات الطائفية داخل الدولة، والمصالح المتعارضة والأطماع الإقليمية والدولية، كل ذلك يشكل أسباباً جوهرية للتهديد، ناهيك عن ما يضاف إلى ذلك من أهمية موقع الدولة وسعة مساحتها وطول حدودها البرية والبحرية، وما يوجد على أرضها من مقدسات وتحتويه هذه الأرض من ثروات وموارد طبيعية ومصادر للطاقة وما تشكله هذه العوامل من مغريات وتجره على الدولة من تهديدات.
وعلى ضوء ما سبق حول معادلة تهديد الأمن وأمن التهديد وما تم توضيحه بهذا الصدد من قيام الحاجة إلى الخدمة الوطنية من عدمها، ودوافع التهديدات ومغرياتها والأسباب المسببة لها، فإن التهديدات التي تواجه المملكة تزداد شدتها والأخطار في غاية حدتها، وأصبح تهديد الأمن الوطني والقومي موجوداً وأمن التهديد المضاد له مفقوداً حيث يُزرع الإرهاب في كل مكان، والذئاب المنفردة تجوب الأوطان، والحرب على الحدود الجنوبية مستعرة، وهذا ما هو إلا نذير ينذر عن ما بعده من خطورة التهديد الصفوي الفارسي وعملائه ووكلائه في المنطقة على أمن المملكة والخليج والأمن القومي العربي إلى الحد الذي ينال من مستقبل الأمة ويؤثر على مصيرها ووجودها.
ومن أوضح صور التهديد ذلك التخادم بين المشروع الصفوي والمشروع الصهيوني في المنطقة على النحو الذي يخدم المشروع الأمريكي والمخطط الاستعماري للقوى الكبرى، وينسجم مع ما اتفقت عليه هذه القوى وحددت آلية تنفيذه، متبنية هذين المشروعين ضمن مخططها الذي اتفقت على حيثياته لإعادة تقسيم المنطقة على هيئة دويلات فاشلة وترسيم حدودها على خريطة جيوسياسية جديدة يتحقق لإسرائيل بموجبها حلمها المتمثل في دولتها اليهودية الكبرى، ونظام الملالي هو الآخر يتحقق له شيئاً من النفوذ والحلم الطائفي، وما يحصل في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا ما هو إلا البداية لتنفيذ المخطط بشكل دموي على يد أدوات الإرهاب ورعاته.
ورغم أن أشكال التهديد متعددة، وحالاته متجددة، إلا أن مصدر تنفيذه يكاد يكون واحداً، حيث إن نظام الملالي يقف خلف معظم الأحداث التي تعصف بالمنطقة عن طريق تدخلاته في الشأن العربي من جهة، ووكلائه وعملائه من جهة ثانية، والإرهاب الذي يغذيه ويرعاه من جهة ثالثة، واعتباره مطية للصهيونية والصليبية من جهة رابعة، واحتلاله للعراق وسوريا والعنف الطائفي المصاحب لهذا الاحتلال، وما يتعرض له المكون السني في هذين القطرين من قتل وتهجير للبشر وتدمير للمقر، كل ذلك كفيل بأن يكون إنذاراً نهائياً، وأن تكون مواجهته خياراً استراتيجياً لا يقبل التسويف أو التأجيل أو المماطلة، فهل بقي هناك من واعظ لمتعظ أبلغ من تحول العراق إلى دولة طائفية فاشلة تابعة لإيران، متخلياً عن هويته الوطنية وقوميته العربية، ومستبدلاً قواته الوطنية بميليشيات طائفية مع استلطاف المكون الشيعي واستهداف المكون السني، والإمعان في التطرف الطائفي والتشيع السياسي من خلال السعي إلى تغيير ديموغرافية السكان والعبث بمعالم المكان، بما في ذلك محاولة تشييع سكان المنطقة المحاذية لحدود المملكة لأمر دبر بليل ومكائد كقطع الليل.
وإذا كان هذا هو الحال في العراق فإن الوضع في سوريا أسوأ من ذلك بمراحل، بسبب ما يرتكبه النظام النصيري من جرائم في حق الشعب السوري مدعوماً ومحكوماً من قبل نظام الملالي الذي نصب نفسه مرجعاً للتشيع وحامياً له، بهدف بسط نفوذه في المنطقة والتحكم في مستقبلها، مستغلاً نسبه المزيف ومذهبه المحرَّف ومنهجه الباطني المتطرف ليمارس ما يمارسه من ممارسات طائفية في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان.
والأخذ بنظام الخدمة العسكرية الإلزامية يبعث في الشباب روح التحدي وتحمل المسؤولية بشكل يتطور مع تطور المراحل العمرية وكبر السن حتى تتحول العادة مع مرور الأيام وتكرار الأعوام إلى طبع والصفة المكتسبة إلى صفة موروثة، ومن أفضل صور هذا التحول أن الضبط الخارجي يتحول إلى انضباط داخلي، والإلزام من الخارج يؤول إلى التزام تلقائي من الداخل وذلك بفضل مراقبة الذات ومحاسبتها نتيجة لخضوع المجند في وقت مبكر لشيء من التعليم والتدريب على أسس الجندية وقيمها التي تتمحور حول الدين والشرف والوطن والواجب عبر تعميق الوطنية في النفوس وزيادة الحس الأمني والوعي الاجتماعي تجاه الوطن وإدراك قدسية أمنه والدفاع عنه، باعتبار الصفات والعادات الصالحة تحمل ثماراً صالحة.
وعلاوة على ما يكتسبه مَنْ يخضع لهذه الخدمة من صفات جميلة وقيم نبيلة، تفضي به إلى التحلي بالانضباط وقوة التحمل والاضطلاع بالمسؤولية وروح الفريق والخضوع للواجب من أجل أمن الوطن واستقراره، فإنها سوف تساهم إلى حد كبير في تصويب الأخطاء وتصحيح العادات الفاسدة، حيث إن العادة هي غلبة الزمن على الإرادة، والعادات الجميلة التي تكتسب من الخدمة العسكرية الإلزامية سوف يكون لها دور فاعل في القضاء على بعض العادات والممارسات التي اعتاد الشباب على ممارستها في المناسبات الوطنية والرياضية، تلك العادات السيئة الناجمة عن البطالة والفراغ والتسيب والتقليد وحالات التنعم والترف، ومعالجتها تعتبر واجباً وطنياً ومسؤولية دينية ودنيوية تتحملها الدولة والمجتمع.
وإذا كان الأمن أفضل نعمة وبقاء النعمة يستدعي المحافظة عليها، وزيادتها تتطلب شكرها فإن الخدمة الإلزامية من أهم الأسباب لحماية أمن الوطن ومواجهة التهديدات والفتن، والتحسب لعاديات الزمن، والوطن في قلب العاصفة والقيادة الرشيدة تتعامل مع الموقف بالعقل لا بالعاطفة، وعلى هذا الأساس فإن الوطن والمواطن ينتظران قرارها بهذا الشأن لاستيعاب ما حصل ويحصل نحو تطبيق الخدمة الوطنية بعد وضع شروط تطبيقها، ومَنْ تطبق بحقه، والقواعد المنظمة لها، بما في ذلك مدتها وتحديد الفئات العمرية للملتحقين بها والحد الأدنى والأعلى من العمر، والربط بين العمر وبين المستويات التعليمية وحالات الإعفاء والتأجيل، وكل ما من شأنه تسهيل الإجراءات وتذليل العقبات في سبيل بلوغ الأهداف المتوخاة من تطبيق الخدمة.