د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
رئيس الشيشان (رمضان قديروف) دعا إلى مؤتمر في غروزني باسم (التعريف بأهل السنة والجماعة) شخصيات دينية من بلدان إسلامية اعتبرهم المنظّمون يمثّلون أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم الأشاعرة والماتريدية والمتصوّفة، واستثنيَ أهل الحديث والسلفيين -وخاصة الحنابلة-. وإلى جانب إقصاء السلفيين فقد جاءت توصيات المؤتمر لتؤكد ما ذهبت إليه التعليقات والآراء التي بثتها صحفنا ووسائط التواصل الاجتماعي على لسان كتّاب وعلماء ومفكرين من داخل وخارج المملكة من كون الهدف من طرح الموضوع في المؤتمر سياسياً بحتاً ولا يخدم وحدة المسلمين.. ويتبيّن هذا ممّا يأتي:
أولاً: لو أن الهدف من التعريف بأهل السنة توحيدهم وتعزيز مذهبهم في ظروف تكالب فيها خصوم الخارج من غرب وشرق متهمين شعوب أهل السنة بأن مذهبهم (السلفي) هو منبع التطرف والإرهاب، ومن الداخل حيث يُرعِب المتطرفون الإرهابيون تلك الشعوب بالتكفير والتفجير، لدُعيَ للمؤتمر جميع الأطراف السنية -باستثناء التنظيمات الإرهابية- ولما استُثنيَ أهل الحديث والسلفيون. وبذلك فرّق المؤتمر بين أهل السنة ولم يوحّدهم، مع أن الفروق بين مذاهبهم ليست شاسعة، كما يقر بذلك المؤتمر حين حدّد أهل السنة والجماعة بأنهم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد والمذاهب السنية الأربعة في الفقه والصوفية على نهج الجنيد. بل إن مؤسّس المذهب الأشعري أبوالحسن الأشعري نفسه صرّح باتباع مذهب أحمد بن حنبل (من كتاب إسلام بلا مذاهب - دكتور مصطفى الشكعة).
وذلك يعني أن أهل السنة والجماعة مفهوم يستوعب كل المذاهب السنية في الفقه مع بعض الاختلاف في مسائل اعتقاديه. والاختلاف يعالج بأساليب الحوار وطرق التفاهم التي يقدّر فيها كل طرف رأي الآخر. لكن منظّمي المؤتمر اتخذوا مسبقاً قرار الإقصاء، ممّا يشير لهدف سياسي.
ثانياً: كان ممكنا لبعض من حضروا المؤتمر ومنهم رموز كبار مثل شيخ الأزهر أحمد الطيب والشيخ عبدالله بن بيه أن يُبرزوا أولوية لمّ شمل كلّ أطراف أهل السنة والجماعة في العالم الإسلامي ويتكاتفوا مع أهل الحديث والسلفيين للوقوف صفّاً واحداً في مواجهة التيارات المتطرفة والإرهابية لفضح أباطيلها وفتاوى منظّريها وتأويلاتها المزيّفة التي تبرّر بها أفعالها المنافية لتعاليم الإسلام، والعمل على عزلها عن أيّ رابطة بأهل الحديث والسلفيين. أما إقصاء هؤلاء بذريعة جرائم الإرهابيين فإنه بمثابة حكم على مئات الملايين من المسلمين السنّة بأنهم إرهابيون. أظن معظم المشاركين ذهبوا للمؤتمر بنيّة ترميم البنيان الإسلامي المتصدّع لا هدمه، ولم يتخيلوا أن يؤدي المؤتمر إلى اتساع الصدع.
ثالثاً: اختار الداعون عقد المؤتمر في ظروف سياسية مواتية (الحروب في العراق وسوريا واليمن ونيجيريا التي تلعب فيها تنظيمات وأحزاب إرهابية تتمسّح بصبغة دينية سنية أو شيعية متطرفة دوراً رئيسياً، والجرائم التي ارتكبتها خلايا القاعدة وداعش في أوروب والتي جعلت مجتمع السلفيين ومذاهبهم توصم في أذهان الغربيين بأنها منبع التطرف والبيئة الحاضنة للإرهابيين)، ورأى الذاعون أن هذه الظروف تهيّء المناخ الملائم لإبراز الأشاعرة والماتريدية والصوفية وما في حكمهم -أمام الغرب والشرق- كبديل مسالم ومتسامح عن السلفيين.
رابعاً: عقد المؤتمر في غروزني، لا في أبو ظبي مقرٌ مؤسسة طابة ولا في القاهرة مقر الأزهر، وبرعاية رمضان قديروف الذي قُتِل والده عام 2004 على يد ثوّار الشيشان الذين ذاقت منهم روسيا الأمرين.. وتضمّنت توصياته ما يشبه إملاءات روسية:
- قناة فضائية للروس لدحر التطرف.
- مركز علمي في الشيشان (تبصير).
- تعاون مؤسسات كالأزهر والزيتونة والقرويين وحضرموت مع مثيلاتها في روسيا، ومنح دراسية لمسلمي روسيا.
خامساً: الآثار بعيدة المدى -لو نجح المؤتمر- تخدم فقط هدفاً سياسياً لا مذهبياً. فناتج الإقصاء هو انقسام أهل السنة والجماعة إلى طائفة أهل الحديث والسلفيين وطائفة الأشاعرة والماتريدية والصوفية. كأنه لا يكفي انقسام المسلمين إلى طائفتي (السنة والشيعة)، بل لا بدّ من ثلاث طوائف تنشغل بالخلاف والخصومة بينها، وتصبح لقمة سائغة للمنصرفين إلى مصالحهم الطامعين في السيادة. لدينا مثَل قريب تقدّمه جارتنا القريبة إيران. فهي بعد فرض هيمنتها على العراق وسوريا ولبنان وتدخّلها في اليمن تحاول الدخول من بوابة الحج. إذ بعد أن منعت مواطنيها من أداء فريضة الحج بذريعة عدم استجابة الحكومة السعودية لطلبها امتيازات لم تطلبها أي دولة إسلامية أخرى، وترى السعودية أنها تسييس لشعيرة الحج وتهديد لأمن الحجاج. ولأن هذه الذريعة لا تبرّر بتاتاً حجب ركن من أركان الإسلام لا أمام المسلمين كافة ولا أمام الإيرانيين شنّ المرشد الأعلى الإيراني هجوماً بذيئاً على المملكة ذات المنهج السلفي وإدارتها للحج، وطالب بإقصائها وتدويل الإشراف عليه. فهل شجّع المرشد على هذا الهجوم إقصاء السلفيين وأهل الحديث عن مؤتمر التعريف بأهل السنة والجماعة؟. على أي حال انتهى المؤتمر وفضحت توصياته أهدافه. وشيّعنه انتقادات جاءت من كل حدب وصوب. ومما يجب ذكره أن بيان هيئة كبار العلماء في المملكة كان متّزناً وداعياً إلى نبذ ما يثير الفتنة والفُرقة بين أهل السنة وكذلك جاء بيان الهيئة العامة لعلماء المسلمين بالأزهر -الأشعري المذهب-. أي أن هدف المؤتمر لم يكن محل ترحيب حتى من أتباع مذاهب سنية أخرى غير السلفية، بل حتى بعض المشاركين مثل العلامة عبدالله بن بيّه الذي استاء من التوصيات وقال أنه لم يكن يعلم عنها شيئاً.
لتلافي أضرار هذا الانشقاق لا بدّ من الأخذ باقتراحات تبنّاها عدد من الكتاب والمفكرين تتفق على ضرورة عقد مؤتمر يجمع كل المذاهب السنية -بدون استثناء- لبحث ما يوحّد أهل السنة والجماعة ويقوّيهم ويخفف من الفروقات بينهم ضمن هامش مقبول من الاختلاف، وربما يتمّ الخروج باتفاق على تصنيف مرجع سنيّ يستوعب تلك الاختلافات ويسمح بها ما دامت لا تعارض أصول الشرع.