د. خيرية السقاف
لن أزيد, ولا أحسب أن الثناء مقصد المجتهدين, ولا غاية لما بذل, فالحج في هذا العام تميَّزَ نوعيةً في مستوى التنظيم, وإمكانات الخدمة, والأمن, وخطط التفويج, وإدارة الحشود..
وإن كانت غاية الجميع هي توفير الحماية لكل قدم وطئت الأرض المقدسة, من بوابة مكة الأثيرة, إلى بيت الله الحرام, مشياً على ثرى الحطيم, وزمزم, وصولاً إلى مغادرة من بعدُ حمى المشاعر كلها, حيث بلغ عدد أفراد الأمن الذين جندوا لهذه الحماية 170 ألف رجل بجميع الرتب, ومختلف الأدوار، جوار الحماية, والرعاية الصحية الطارئة بلغ عدد أفرادها 26 ألفاً من جميع المختصين أطباء ومساعدين وممرضين وفنيين في 25 مشفى, و158 مركزا طبيا بما يؤكد المهمة الكبرى التي تتولاها هذه البلاد لخدمة ضيوف الله, من جاءوا لهذه القبلة الأولى التي خص بموقعها أهلَها خالقُ الكون, هو من قال وقوله حق « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» وقد وسعت الصدور, وجندت المقدرات مالية, وبشرية, وعلمية, وتقنية, وخبرة, ودراية, بمنتهى الجهد والاجتهاد, والتفاني لهذه المسؤولية, وفاء بالتكليف, وصدقاً في القيام بما وسعت له القلوب, والصدور, والطاقات, والإمكانات..
ولئن نجح هذا الموسم نجاحاً فاق كل التكهنات, ودحر جميع الظنون, وأحبط نار النوايا, وفتت مغزل الحائكين على مرأى, ومسمع العالم بأسره فإنها الحقيقة التي شهدت بها الصورة المرئية, واللقطة الفورية, والصوت المسموع, وقدمتها في آنه, ومكانه, دونما يد تطمس, أو ريح تعبث, أو رماد يذر..
إنها الخبرة التي تزيد, والحنكة التي تصقل, وإنها التجربة التي تتسع, واليقظة التي تتمرس, وإنها الرسالة الموكلة, والأمانة المنوطة بهذه البلاد, ..
وقد قدمت أجمل وأبلج الشواهد, وأصدقها على اليد الواحدة لأبناء هذا الوطن, ..
اليد الواحدة التي فيها كل قلب عرق ينبض بالآخر من الجندي, للساعي, من المطوف, للإعلامي, من سائق الحافلة, لمنظف الطرقات, من المرشد للممرض, من القائد لمن خلف أجهزة المتابعة, والمراقبة, من صانع المظلة لمبتكر برنامج الإرشاد الإلكتروني, لمستخدم التقنية للتواصل وفي الإسعاف, والتفويج, والتبريد, والتظليل, والسقيا، والخدمة الفورية, والإنقاذ السريع, بل العون الفردي لكل قدم تدب وتمشي, ولكل جسد يوهن ويضعف, ولكل عربة تتعثر وتنحرف, ولكل تائه ليسترشد ويستدل..!
أما وقد تربص من تربص, وتوعد من توعد, فلا أذن له، ولا تفكير فيه, في هذا المشهد المتضافرة فيه القمة بالسفح, والروح بالروح, الممتزجة فيه الأنفاس والخفقات, والفكرة والنية, والعزيمة والجهد, مع الإيمان المطلق بأن الله يفي ما يعد به فالمكان في كنف أمانه, وحفظه, وعنده لا تضيع الودائع, فكل أولئك كانوا عنده ودائع في خدمة ضيوفه تعالى, وأداء لما كلفوا به, وخصهم بمسؤوليته, أرضه المقدسة، وحرمه الآمن, ومسجد رسوله الأمين خاتم الأنبياء, والمرسلين عليه أفضل الصلاة, والتسليم.
ثمة ما نحتاج إليه الآن هو توثيق المشهد بشهادة من كانوا نواته حجاجاً, ومادته شاهدين، كانوا فيه معتمرين حاجين, مصلين طائفين, ساعين, متزمزمين, قد تحركوا بين المشاعر وطرقاتها, ومنافذها, ناموا واستيقظوا, مشوا واستروحوا, استظلوا وانطلقوا, رموا الجمرات, وركبوا القطار, والعربات, أكلوا وشربوا, اغتسلوا وتطهروا، بكوا ودعوا, وتحللوا من نسكهم, وأثقالهم, وعادوا وقد خفت أثقالهم, واطمأنت قلوبهم, واكتسوا ببرد اليقين في عفو القدير, هؤلاء ما يقولون..؟!
عن المكان, والأمن, والضيافة, والأداء, والخدمة, والمبيت, والقيام, والمشرب والمأكل,..؟!
ففي إجاباتهم وثيقة ليست ضرورة لمن يعمل لله تعالى ولا غاية, إذ لم نسأل عنها دهورا وأعواما, لكنها الآن للناعقين لجاما, وللحاقدين مُرا يلعقونه, ولعلهم بعد هذا ينشغلون بالتطبب منه ما دارت على نواياهم دائرة الحق, وكشفهم نوره.
أما أنت يا مكة, فانعمي في كنف أمانك محاطة بسوار أعضادك النابضين في جسد هذا الوطن صدقا ووفاء.
تقبل الله حج الحجيج, وجهد المجتهدين وضاعف عزه, وبسط جناح رحمته وأمانه على هذا الوطن الغالي.