يُحكَى أن والدة محمود درويش زارته في السجن يوم أن كان سجينًا عام 1965 حاملةً معها الخبز والقهوة والفواكة ، فمنعها السجّان من إدخالها، فبعد أن غادرت كتب محمود درويش مشاعره الشجيّة منشدًا:
أحنّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي، ولمسة أمي
وتكبر في الطفولة
يومًا على صدر يومِ
وأعشقُ عمري لأني
إذا متُّ أخجل من دمع أمي
... إلى آخر الأبيات
أما أنا فأتصوّر قصة مختلفة عن السياق الذي جاءت به هذه القصيدة، أتصوّر أن محمود درويش كتبها (صباحًا) هذا الوقت الذي تنتشر فيه عادةً في أرجاء البيوت آنذاك رائحة الخبز ورائحة القهوة ومنظر الأمهات وهن يعددن ذلك ووجودهن المريح للقلب والروح، قلتُ كتبها (صباحًا) لأني أتصور أن الإنسان حين يفقد شيئًا تأتيه نوبات الحنين والشوق والفقد في تلك الأوقات المعينة التي ارتبط فيها تعلق الفاقد بالمفقود والتي اعتاد فيها على ذلك الشيء الذي فقده، أتصورهُ كتب هذه القصيدة صباحًا بين جدران السجن الكئيب في هدوئه الموحش وبين قضبانه الباردة، حيث لا سلوى هناك سوى جميل الذكريات، أتصوّرهُ جالسًا بكل يأس وأسى قد مرّ أمامه طيف أمه فأثارت أشجانه وأشواقه ومشاعره، واشتاق إليها وإلى خبزها وقهوتها - كما ذكر - ولا أظن أنه مشتاقًا للخبز والقهوة تعبيرًا عن جوع، إنما على ما يحمله إعداد ذلك من مشاعر وارتباطات عاطفية وزمانية ومكانية تعلق صورًا خالدة في الذاكرة، كتبتُ تصوّري هذا الذي فيه إعادة لصياغة قصة أبيات الشاعر محمود درويش لأني أظن أن الشاعر يكتب قصيدته تحت تأثير وسطوة مشاعر عميقة لا تحت تأثير مجرد موقف عابر.
- شروق القويعي