في شهر رمضان المبارك عام 1402هـ، وفي أيامه العشرة الأولى نشرت لي جريدة «الجزيرة المسائية» الغراء، قصيدتي في رثاء الملك خالد -طيّب الله ثراه- وكان مطلعها:
يادارُ، حَسْبُكِ، إنَّ الخَطبَ ذا.. جَللُ
أوصيكِ بالصبر، عَلَّ الرُّزْءَ يُحتَملُ
وجعلت الجريدة عنواناً لها أحدَ أبياتها، هو:
أتَيتَ يا فهدُ تأسو الجُرحَ في ثِقَةٍ
والجُرحُ، لابُدَّ، لما جِئتَ يَندَمِلُ
لكني فوجئتُ عندَ قراءتي «مطلع القصيدة» أن كلمة «ذا» تغيرت فصارت «ذو» وهي الكلمة الصغيرة ذاتُ الحرفين، والقابعة بهدوء في مكانها الصغير، لا تأثير لها ولا عليها، ولكنها بصيرورتها «ذو» صار لها شأن آخر يُحسب حسابُه، وأنتم أدرى به، كونكم صُناع الحَرفِ وصاغة الكلمة ومهندسي بلاغتها، ولكني أستميحُكم عُذراً إن كنتُ تجرأت قبلكم لإبداء رأيي فيما حصل من «تغيير» لا مبرر له وفي أهم بيتٍ في القصيدة، هو مطلعها، وبيتُ قصيدها وكونها قصيدتي التي أحرصُ على أن تصلكم في حالة هي جديرة بكم وبصحيفتكم الموقرة، سوف أدلي برأيي بإيجاز، فأقول:
إنَّ «التغييرَ» حدث ضمن نطاق هذه الجملة: «إنَّ الخَطْبَ ذا.. جَلَلُ»:
أ- ثم اختارَ منها كلمةَ «ذا» فقط، معتبراً أنها «اسمٌ من الأسماءِ الخمسة» وهي ليست كذلك، ومنها بدأتْ تداعياتُ «التغيير».
ب- ثم أعربَ «ذا» على أنها «خبرُ إنَّ» ورفعَها «بالواو»، وهي ليست «خبَر إنَّ» أيضاً.
ج- أما «جَلَلُ» فتركَها «التغييرُ»، بلا إعراب.
أما إعرابي للجملة نفسها فهو التالي: «إنَّ واسمُها» «المنصوبُ» لا خلافَ على إعرابهما.
أ- «ذا»: اسمُ إشارة، مَحذوفاً منه «ها» التَّنبِيْه، جِئتُ به «تأكيداً» لِفَداحَةِ الخَطب.
ب- «جَلَلُ»: هي «خبرُ إنَّ» مرفوعاً بالضمة.
ولم يتوقَّفْ ما أحدثه «التغييرُ» عند ما ذكرناه آنفاً، بل تعداه إلى تداعيات أخرى هي:
أولاً: بسببِ اعتبارِ «ذا» -خطأً- اسماً من الأسماءِ الخمسة، فقد صارت «ذو» الآن واجبةَ «الإضافةِ» إلى الكلمة التي تَليها مباشرةً، وهذه الكلمةُ هي «جَلَلُ» التي لا تجوزُ «الإضافةُ» إليها، لكونها من فئةِ «الكلماتِ الصفات»، فلا يُقالُ مثلاً: إنَّه مُصابٌ ذو جَلل «بل» إنه مُصابٌ ذو خَطبٍ جَلَل»، أي أنَّ «ذو» وأخواتِها، تُضافُ، في هذه الحالة، إلى «الأسماءِ والمصادر» فقط وليس إلى «الكلماتِ الصفاتِ» مثل «جَلَل» وغيرها.
ثانياً: ولو فرضنا جَدَلاً، جوازَ إضافةِ «ذو» إلى «جَلَلُ» فسوف تُلحِقُ هذه الإضافةُ خَلَلاً لقافيةِ «صدرِ» مطلع القصيدة، عندما يَصيرُ «مجروراً» بالإضافة، حينئذٍ، تكونُ «لمطلع القصيدة هذا «قافيتانِ مختلفتان»: إحداهما: لامٌ مجرورةٌ» لـ»صدرِهِ» والأخرى «لامٌ مرفوعةً» لعجزِه، التي هي قافيةُ القصيدةِ كُلِّها.
إنني اليوم أرى قصيدتي و»ذو» تُلاحقُها أينما حَلَّتْ، فَتصُيبُ» مطلعَها» وتُخَرِّبُ قافيتَه ومعناه، ويتفاجَأُ القارئُ بذلك وهو مُقبلٌ لقراءتِها كقصيدة، ثم سرعانَ ما يَعزِف عنها وهو بَرِمٌ بها ومُتَذَمرٌ منها، رغم أنه يراها منشورةً في وسائِل الاتصال الحديثة، وفي المطبوعاتِ النفيسة، ولكن بلا فائدة!
إن السبيل الوحيد لإزاحةِ كلّ هاتيكَ «الذواتِ» عن طريق قصيدتي هو أن تَتكَرَّمَ «الجزيرةُ» الموقرةُ، وهي أهلُ الكرم، فتقومَ بنشرِها وإحلالِ «ذا» في مكانِها اللائقِ من «مطلعِها» لِتَتَوحَّدَ «قافيتُها»، «اللاَّمُ المرفوعةُ» لِكلّ أبياتها!
إن «الجزيرة» الَغّراء قد عَلَّمتْنا دائماً بأنها الغيورةُ والحريصةُ على كلِّ ما فيه خيرُ القارئ وفائدةُ الأديب، حيث كانت، ومازالَت، وستَبقى، إن شاء الله، هي الوسيلةَ الأمينةَ إلى عقلِهِ وَكيانِهِ، والطريقَ الآمِنةَ إلى قلبِه وَوِجدانِهِ!
والآن، إليكم قصيدتي موضوعَ المقال: وعنوانُها:
«دُعاءٌ.. ورَجاءٌ.. ونِداء»
يا دارُ، حَسْبُكِ، إنَّ الخَطْبَ ذا.. جلَلُ
أوصيكِ بالصَّبر، عَلَّ الرُّزْءَ يُحتَمَلُ
لستِ الوحيدةَ تبكي اليومَ راحِلِها
بل أصبحَ السَّهلُ يبكي اليومَ والجبَلُ
إن كانَ عنكِ حَبيبٌ قد مَضى عَجِلاً
فما مَضى عنكِ منهُ الفَضلُ والمُثُلُ
إذا قضى أسَدٌ أبْدَلْتِه أسَداً
فَفي عَرِينِكِ نِعْمَ المِثْلُ والبَدَلُ
كأنهم دُرَرٌ في عِقْدِكِ اكتَملَتْ
وَحَولَ جيدِكِ حُسْنُ العِقْدِ يَكْتَمِلُ
إن ماتَ خالدُ، ما ماتَتْ مَآثِرُهُ
فالجسمُ يَفنى ويَبقى الفِعلُ والعَملُ
فليس بالجسم يحيا المرءُ في شَرفٍ
بل بالمكارِم يحيا في العُلى الرجُلُ
فَرُبَّ حَيٍّ كما الأَمواتِ مُعْتَبِرٌ
وَرُبَّ مَيْتٍ به الأحياءُ تحتفِلُ
(1) «فلن يَموتَ الذي في القلبِ مَنزلُهُ
ولن يَنالَ الورى من ذكره مَلَلُ»
(2) «فَاسكُنْ، هَنيئاً، جِنانَ الخُلْدِ في دَعَةٍ
مع التُّقاةِ الأُلى لِلّهِ قد رَحَلوا»
لَمّا رَحَلْتَ بَكاكَ الشعبُ أجمعُهُ
وبالدعاءِ سعى لِلّهِ يبتَهِلُ
وإذ تَبوأَ عَرشَ القلبِ مالِكُهُ
عادَ الصفاءُ له والسَّعدُ والأمَلُ
***
أتيتَ يا فهدُ تأسو الجُرحَ في ثِقَةٍ
والجُرحُ، لا بُدَّ، لمَّا جِئتَ يندَمِلُ
بالحبِّ والعدلِ والتقوى أتيتَ لنا
ولِلمَكارِم أنتَ الباذلُ الجَزِلُ
في السلم تبني صُروحَ المجدِ سامِقَةً
وفي الشدائدِ أنتَ القائدُ البَطلُ
عَمَّتْ مآثِرُكَ الأمصارَ من كَرَم
وكم أشادَتْ بك الأمصارُ والدُّولُ
وكم سَعَيتَ إذا خَطْبٌ أَلَمَّ بِها
لِلّهِ سعيُكَ، لا لِلْجاهِ، والعَملُ
وليسَ يَطمَعُ في جاهٍ كمِثلِكَ مَنْ
بالعِزّ يَرفُلُ، والأمجادِ يَشتَمِلُ
***
فاسْلَمْ، فَدَيتُكَ، لا سُوءٌ أتاكَ ولا
بأساً أَراك، وطالَ العُمرُ والأَجَلُ
وعاشَ يَرعى، وَلِيُّ العَهْدِ عَهدَكُمو
آلَ السُّعودِ، ونِعْم العَهدُ والرجُلُ
***
يارَبِّ، نصرَكَ للإسلامِ في بَلَدي
لَولا اعْتِصامٌ به، لا شَكَّ، ما عَدَلوا
فيهِ القلوبُ بتقوى اللهِ مُتْرعَةٌ
فيهِ الضمائرُ بالإيمان تَعتَمِلُ
فيهِ الديارُ بِعَدلِ المُلْكِ عامِرةٌ
فيهِ الحَياةُ بشَرعِ اللهِ تَعتَدلُ
والناسُ إن تَعْمُرِ التقوى سَرائِرَهمُ
تَسْمُ النفوسُ، فلاَ غَيٌّ ولا خَطَلُ
... ... ...
هامش للإيضاح:
(1، 2) ضَمَمتُ هذين البيتين لقصيدتي لاتِفاقِهما معها في «البحر والقافيةِ والمعنى»، وكنتُ أحفظهُما دونَ معرفةِ اسمِ قائِلهما الكريم.
أحمد بن عثمان البسَّام - الرياض