تمهيد
(وبال في كليمندو), هي الرواية الخامسة للروائي السوداني الكبير إبراهيم إسحق بعد (حدث في القرية 1969), و(أعمال الليل والبلدة 1971), و(مهرجان المدرسة القديمة 1976), و(أخبار البنت مياكايا) التي صدرت مع (وبال في كليمندو) في نفس العام (2001), ثم (فضيحة آل نورين 2004), بالإضافة لمجموعات قصصٍ قصيرة, أبرزها (ناس من كافا) و(عرضحالات كباشية), ومجموعة (حكايات من الحلّال), فضلاً عن قصته الشهيرة (فجوة في حوش كلتومة). بعض هذه القصص- التي تربو على الثلاثين- نشرت مجتمعةً وتناثرت أخريات في الصحف والمجلات السودانية والعربية منذ السبعينات. ولد إبراهيم اسحق وترعرع في قرية (ودعة) في دارفور وتخرج في معهد المعلمين العالي (صار المعهد فيما بعد كلية التربية-جامعة الخرطوم), ثم معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية (1984). عمل الكاتب بالتدريس في مدارس السودان ومدينة الرياض السعودية. إسحق عمل مدرساً للإنجليزية لعقدين أو تزيد في مدينة الرياض, قبل أن يعود إلى السودان نهائياً قبل بضعة أعوام (2006), ليترأس اتحاد الكتاب السودانيين في العام (2009). للكاتب عددٌ كبير من الدراسات والمقالات نشرت في الصحف السودانية والعربية والإفريقية منذ السبعينات, ونال جوائز عدة أبرزها جائزة الآداب والفنون التشجيعية (1979), ثم الدكتوراه الفخرية من جامعة الفاشر (2004). متح إسحق من بيئة تفيض بالقصص وترشح بالحكايات, وكان قارئاً نهماً لا يرتوي من الكتب, يقرأ كتاباً كل يومين, ولمعت موهبته باكراً حينما قرأ على زملائه الطلاب في الجمعية الأدبية قصة بعنوان (أبو الشمقمق), فدهشوا أيما دهشة, ولم ينشب أن صار لقبه في المدرسة (أبو الشمقمق), وهي قصة استوحاها من كتاب (الأغاني) عن شاعر عربي قديم. ويحلو لبعض النقاد والكتّاب في السودان - كفيصل مصطفى وآخرين- أن يصفوه برائد الواقعية- السحرية, مشيرين لروايته الأولى (حدث في القرية 1969), التي صدرت قبل (مائة عام العزلة)؛ وإن كنا نقول بالريادة المتعددة للحركات الأدبية والفنية وليس الأحادية.
أهم ما ماز مشروع إبراهيم اسحق الروائي, هو أنه منذ بدأ الكتابة وحتى نيته (فك ارتباطه مع آل كباشي), كما قال الكاتب, وهو إشارة إلى عزمه التقاعد وترك الكتابة - وآل كباشي هم الذين كتب عنهم جل كتاباته السردية المتدفقة بالغرابة والمتعة - (هذا إن استطاع, ونتمنى ألا يستطيع), كان مكرساً كله لتقديم دينميات الحياة في غرب السودان وزخمها وحرارتها وتجلياتها, بشكل يوازي ما فعله مشروع الطيب صالح بريف شمال السودان. يكفي أن الطيب صالح نفسه قال أنه تعرف على كثيرٍ مما كان يجهله عن الحياة وأسرارها في غرب السودان من خلال لوحات إبراهيم الروائية الخَوَالِب. وإذا كانت روايته (وبال في كليمندو) تجيء , ضمن هذه اللوحة الكبيرة, فإن تجلياً فنياً نوعياً معيناً يكسبها قيمة إضافية جديدة.
ملخص حبكة الراوية: (قمر عزة), دون جوان كافا.
تتلخص حبكة (وبال في كليمندو), في رصد جريمة قتل غامضة تحدث في قرية في غرب السودان (دكة/دبكة كافا), (وكافا اسم تخيلي fictional مثل «دومة ود حامد» عند الطيب صالح), بطلها شابٌ وسيمٌ كتومٌ غامض (قمر ولد طلحة) يحل بالقرية فجأةً هابطاً من وادي (أبو عجورة), فتتعلّق به فتيات الدكة/الدبكة ويسلب لبّهن ويفتك بواحدة منهن هي (عزة), فتكاً. وتتكشف لنا قصة جريمة اغتيال (قمر عزة) من خلال ذاكرة شخوص الرواية التي تتناوب الحكي الماتع الدوّار عبر 16 حلقة سردية تقوم عليها كامل بنية الرواية التي سنتناولها بعد قليل. أولاد ابيرق (عيال عم عزة) الذين اغتالوا الشاب الغريب (قمر), غدراً في وادي (كليمندو), في مقابل غرمائهم (أولاد كباشي) الذين عادة ما يحتمي بهم الغرباء في القرية, ينتهي بهم المطاف قتلى مبطونين مطرودين نتيجة لسمَ زعاف شربوه غفلة من إحدى النساء السواحر في المنطقة. تكشف القصة عن نفسها رويداً رويداً من خلال ذاكرة القرية الزاخمة والراجعة للوراء باطراد. ثمة اتكاءة خفيفة على أساطير تنبع من الواقع القروي نفسه وتعانق الحياة في ألفة وتواد.
بنية الرواية: رباعيات سردية
تعتمد الرواية بناءاً غير تقليدي ينهض على توالي السرد من أشخاص محددين (كلتومة - عمر- عبد القادر - البشرى)..وكلتومة هي التي تستفتح الرواية وتختتمها معاً.. وخلال ذلك تتكرر أصوات هذه الشخوص بمعدل أربع مرات لكل صوت..أربعة فصول لكل واحد تقريباً. هذا التركيب الرباعي يبدو ذا التصاق ما بجملة معانٍ كلية تنبجس من الرواية ذاتها؛ معانٍ ليست واضحة كل الوضوح وليست غامضة كل الغموض. وفيما تتحدث الشخصية الحاكية عن نفسها وتسرد فإننا نسمع, في الوقت ذاته, أصواتاً أخرى عديدة في كل فصل.. إن تياراتٍ من الوعي المتدفق يحملها تيار الوعي الرئيس في الفصل الواحد.. وتنشط بين ذلك حيويات متعددة خلال عمليات الحكي اللَّذ والسرد المتيع الذي صبغ أسلوب الكاتب دائماً. يأتي ذلك عبر تداعيات شخصيات مثل (ود المقدوم والشيخ البصير وبرغوت ولد جلة).. ما تنفك تمنح الرواية عمقاً اجتماعياً وتزخمها بينبوعٍ للحكمة الشعبية لا يجف. يتخلل الرباعيات تجوال لعناصر من أزمنة متعددة, وفترات تاريخية متباينة تدنو وتبتعد.
موسيقى الرواية: حوار ايكولوجي
لموسيقى (وبال في كليمندو), ارتباطٌ عميق ببنيتها الرباعية..حيث يشكل كل صوت عنصراً رئيساً في السيمفونية الاجتماعية الكبيرة التي تعزفها الرواية.. ما يمكث أن يتفرع إلى أصوات متعددة ومتنوعة كلما تدفق القص ومَتَعَ وتكشفت الأحداث المحيطة بالقرية وسكانها وما جاورها من أودية وقرى وقيزان. هذا الوعي في تجليه الذاتي والجمعي في آن, ما يني يشكل قوام الرواية, من حيث انبثاقه عن حيويّات وتناقضات وصراعات وتحالفات الحياة في دكة كافا؛ والدائر محوره بين قطبي الصراع الاجتماعي في القرية: أولاد كباشي وأولاد إبيرق. إيقاع ريفي رملي رومانسي-واقعي جميل.. تظهر فيه ألفة الإنسان والحيوان والبيئة وتناقضاتها معاً (لاحظ التفاعل ين الدواب في السفر الجمعي, وبين الراكب الوحيد ودابته في السفر المنفرد).. ومعارك برغوت ولد جلة مع العقبان الكاسرة.. وكذلك معارك الثائر (الزاكي ولد بخيت) الملقب «براصد القيزان» ضد الأتراك والإنجليز والذي يوصف لنا بأنه (.. أكثر تحملاً من الهجن في المسافات البعيدة, وأسرع من الجياد في السهوب, وأقدر على الزوغان والتخفي من بنات آوى) .. ونعرف أكثر أنه ونحن نمضي مع تيار السرد أن (لسبع سنين طوال لم يمكث الزاكي ولد بخيت في موضع واحد مقدار ضحوة أو أمسية..كالرياح أبداً حائم , مكانه في أعالي الأشجار أو في دغلها..القليلون الذين يعرفونه يلمحونه أحيانا في آبار أبو دليق...على صلبه حزامٌ عريض فيه شوتالين أحدهما على شبرين والآخر على ثلاثة أشبار.. ساعة تزحمه معركة مع مهاجم واحد يستعمل الشوتال الأصغر وقبضته اليسرى مدعومة بجذوع الشجر المرمية..وحين يكثر مهاجموه .. يستعمل الشوتالين)..( ص. 59-60).
وكذلك نرى صراعات الأجيال المتجسدة في اجتماعات اللجنة الشعبية بالقرية.. ومثلما أن قوة الصراع بين صيّاد العقبان المهير برغوت ولد جلة والعقبان الشُرْسٌ ترميز لصراع الحياة والموت, فإن اجتماعات اللجنة الشعبية ترميز للصراع السياسي-الاقتصادي-الفكري في السودان والمنطقة, ذلك أن (صلاح ولد الحكيم وناصر ولد حمودة الشحمة والنار كما يصفهما أهل الدكة» (ص. 101). حركة الحياة كلها تعلو تهبط, وتقعد وتقوم في هذه النجوع والفيافي والسهوب والكثبان والقيزان الرملية عظيمة المعاني والجمل والإشارات الكونية.
الحياة في الرواية تعتمل وتشتغل كلها, في الواقع, من خلال دينميات الحوار البيئي- الايكولوجي الفعّال. حوار مكونات البيئة المادي والاجتماعي والعاطفي-الوجداني يتجسم بشدة في هذه الراوية. أنظر لمشهد العرس في الدكة الذي تنطلق فيه ميارم بالغناء الشجي الحزين, وعبر ذلك تنكشف للقارئ أسراراً جديدة عن تفاصيل ملحمة (قمر وعزة) في الدكة:
« في عرس أولاد حسبو لبست ميارم ثوباً أزرقاً جديداً باهراً وتوسطت صف بنات الصفقة, نائرات متحفزات كالأمهار..وحميت بالجميع ألاعيب الفرح..بدأ بالجراري الثقيل, وانقلبوا به إلى المندعوس الوقور, ثم طلبوا نشاطا ووثبا فدخلوا في الحجوري.. وعندها أمسكت ميارم بزمام الغناء..
شديري /في بيتنا أمي/شديري أم ساق/في بيتنا أمي/مطيري/في بيتنا أمي/مطيري سقاي/في بيتنا أمي
طويري /في يبتنا أمي/طويري بكاي/في بيتنا أمي/قميري/في بيتنا أمي/قميري ضواي/في بيتنا أمي
(مدامعها.. تتحدر على صدرها, تكسي الثوب الأزرق البهي بللاً لا ينتهي, ولا تني تصفق وتستمطر الإشفاق بإيقاع ناشز حاد كالمدية يشق التورم ويدلق عليه بحور الوجيعة والفجيعة.. دائرة الغناء كلها تتسربل بالأسى), (ص.36-37).
وتبدو لنا هنا جليةً اعتمالات الحياة الشعبية في قرية (دكة كافا)؛ مسرح الرواية الرئيس, واضطرامات حياتها واحتشاد فولكلورها, الذي هو الشكل المصغر لجزءٍ عريض من فولكلور غرب السودان ما بين شمال/شرق دارفور ونواحي شمال كردفان. إن هذا الغناء المنسكب الحزين يغسل القرية كلها من جديد ويجدد روحها وشبابها, ويعيدها ثانية إلى بؤرة التوترفي القصة- اختفاء قمر واغتياله ليصبح, فيما بعد وبالاً, ليس فحسب على القتلة الغادرين أولاد ابيرق, ولكن على الجميع في وادي كليمندو.
خاتمة
إبراهيم إسحق كاتب عميق العوالم ومديد الآفاق وعظيم الرؤى وماتع الأساليب. في رواية (وبال في كليمندو), تتجلى مهارات الكاتب في تقديم عوالم غرب السودان وحياته الزاخرة بالدينميات والحركة والحكم الشعبية. وبشكل أدق, يمكن اعتبار هذه الرواية نموذجاً للرواية العربية الايكولوجية, أي نموذجاً لذلك الشكل من الروايات التي تتجسد فيها تفاعلات وحوارات الإنسان والحيوان والمحيط البيئي- الايكولوجي كله, من كافة النواحي المادية والوجدانية والاجتماعية والدينية والثقافية والفولكلورية. ويأخذ هذا التجسيد الايكولوجي شكل البنية وشكل الإيقاع وشكل الروح وشكل الألفة والصراع.
... ... ...
عبدالماجد عبدالرحمن - أكاديمي وكاتب وناقد سوداني، أستاذ بجامعة المجمعة.