بينما تناولنا في مقالة سابقة قيمة وأهمية التقرير العلمي المطبوع الذي يقدمه الأساتذة المناقشين عن رسائل الماجستير والدكتوراه بالجامعات العربية التي تقدم بها الطالب للمناقشة، الذي نُشر تحت عنوان (تقرير الرسائل العلمية بالجامعات العربية، بجريدة الجزيرة السعودية، العدد: 15821، بتاريخ 12 ربيع الآخر، 1437هـ 22 يناير، 2016م)؛ فإن هنالك بعدًا آخر في غاية الأهمية ألا وهو الرؤى التي تتجلى نحو طرائق منح الدرجة العلمية من ماجستير أو دكتوراه، ومناقشة هذه الرسائل وبين مصائر الأطروحات العلمية التي تمت مناقشتها وإجازتها، وحصل صاحبها على لقب الماجستير والدكتوراه.
وتتشرف هذه المقالة بتناول ما ذهب إليه ثلة من خيرة ما أنجبتهم الأرض العربية وموقفهم من مناقشة الرسائل الجامعية وما بعد الماجستير والدكتوراه، وهنا في مقالتنا هذه لن نقدم فلسفة تاريخية لهذا الإطار أكثر من توضيح آراء السابقين من كبار الأساتذة والباحثين حول هذا الموضوع بحيث تتبين مسؤولية الدرجات العلمية والحصول عليها؛ فيما تبين عند ثلاثة يحتلوا مقامًا رفيعًا في البحث العلمي، وسوف نتناولهم وفق تاريخ وفاتهم، وهم: العلامة الجليل والمؤرخ الدكتور حسين مؤنس (ت1416هـ - 1996م)، والدكتور محمود الطناحي (ت1419هـ - 1999م)، وعلامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر (ت1421هـ - 2000م).
(1)
حسين مؤنس والإشراف على الرسائل الجامعية ومناقشتها
نستشرف بداية ما ذكره العلامة الجليل والمؤرخ الدكتور حسين مؤنس (ت 1416هـ- 1996م)، حول هذه الألقاب التي يحصل عليها صاحب الأطروحة، من ناحية وقيمتها العلمية من ناحية أخرى؛ فيقول: «ألقاب الماجستير والدكتوراه عندنا اليوم... أغطية وأقنعة نستر بها الجهل أحيانًا، ونكسب بها لقمة العيش في أكثر الأحيان، والطالب لا يدقق فيما يقول؛ لأنه يعرف أن الكثيرين من الأساتذة لا يقرؤون لا هذا البحث ولا غيره، ولقب دكتور يعطى كأنه صدقة أو حسنة لوجه الله، وقاعات الرسائل في مكتباتنا الجامعية تضم الألوف من تلك المجلدات الثمينة المجلة بالقماش الأسود، والله وحده يعلم ما فيها.. الجيل الذي تخرجنا عليه نحن وبقية العالم العربي لم يكن في رجاله إلا القليل ممن حلت عليهم بركة الدكتوراه، ربما لأنهم كانوا علماء حقًا، ولأنهم كانوا كذلك فلم يكونوا بحاجة إلى طيلسان الدكتورية لكي يؤكد مكانهم من العلم. محمد شفيق غربال وعبد الحميد العبادي وأحمد أمين وأمين الخولي ومصطفى عامر وأحمد الشايب وعلي عبد الرازق وعبد الرحمن الرافعي ومعظم هذا الرعيل المبارك الذي ملأ طباق عالم العرب والإسلام علمًا، لم يحمل واحد منهم لقب دكتور. ولكنهم جميعًا كانوا بحار علم ومعرفة، واحد منهم وهو عباس محمود العقاد كان جامعة كاملة، ولو شاء أي منهم أن يحمل عشرة طيالسة دكتوراه لحملها... وأيام هذا الجيل الذي هو إلى أيامنا هذه عماد مجد مصر الفكري، كانت قاعة صغيرة في شارع صغير متفرع من شارع عبد العزيز يسمى شارع الكرداسي أو حارة الهدارة تضم من العلم قدر ما تضمه جامعاتنا اليوم جميعًا، تلك هي قاعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ولقد رأيت فيها ذات خميس كل من ذكرت مضافًا إليهم محمد كرد على عالم الشام في عصره وحسن حسني عبد الوهاب عالم تونس وعبد العزيز الميمني عالم الهند وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وكامل كيلاني ومحمد لطفي جمعة ومحمود تيمور ومحمد فريد وجدي ومحمد فريد أبو حديد ومصطفى عبد الرازق، ومحمد عوض محمد، وأحمد زكي باشا شيخ العروبة، وكان شباب العلماء في ذلك الحين... ومن بينهم زكي نجيب محمود وإبراهيم حلمي عبد الرحمن وعبد الرحمن بدوي ومحمد عبد الهادي أبو ريدة ومحمد مندور وشوقي ضيف وإبراهيم بيومي مدكور وغيرهم كثيرون يجلسون في نفس القاعة ويتلقون من الرعيل القائد راية العلم ليسيروا بها إلى الأمام، وكل رجال هذا الجيل الثاني دكاترة بالفعل، وكن الدكتوراه كانت أقل أدواتهم وأيسر ما يذكرونه من عدة لحمل الأمانة لأنهم حتى من دون لقب دكتور كانوا سيصلون إلى ما وصلوا إليه ويزيدون»(1).
ثم يتساءل الدكتور مؤنس في صرخة عالم باحث: «ماذا أصاب الدكتوراه في هذه الأيام وأقصد أيامنا هذه؟... إذا أنت حضرت المناقشات عجبت! فإن أصحاب الذمة من الأساتذة المناقشين الذين يقرؤون الرسالة ويستعدون لمناقشتها حقًا يظلون يكشفون عيوب الرسالة ومواضع الخطأ فيها حتى نقول: انتهى الولد يا ولد!. ثم تجتمع اللجنة للتداول، ثم تعود لتعلن منح الطالب درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى، ولا يمكن إلا أن تكون مرتبة شرف أولى. وتظل واجمًا مكانك لأنك لا تفهم، فإما أن الذي سمعته من كلام الشيوخ ونقدهم حق، إذن فهذا الطالب لا يستحق الثانوية العامة. وإما أنها كلها مسرحية مرتبة محبوكة يتأزم فيها الموقف حتى تظن أن البطل قد ضاع ثم فجأة تنحل العقدة وتصفو السماء ويتزوج البطل البطلة وفي هذه الحالة تكون تلاوة قرار اللجنة صورة مبتكرة لأغنيتنا التقليدية اتمخطري يا حلوة يا زينة»(2).
ثم يتناول الدكتور حسين مؤنس مسألة في غاية الخطورة إلا وهي الإشراف على الرسائل العلمية، فيقول: «قرأت في طلب تقدم به استاذ للعمل في قسم التاريخ في جامعة عربية، وكنت رئيس هذا القسم، فإذا بصاحبنا يقول إنه أشرف إلى الآن على 75 رسالة للماجستير والدكتوراه، فاستبعدت الطلب في الحال، لأن هذا الاستاذ لا يخلو أن يكون أحد رجلين: إما أنه صادق فيما يقول أي أنه أشرف فعلاً على هذا العدد الهائل من الرسائل، وفي هذه الحالة لا يكون وقته قد اتسع للاطلاع على كتاب واحد أو تأليف كتاب واحد، وفقد الحق في الاستاذية من زمن طويل نتيجة لعدم الاطلاع على كتب جديدة، وإما أن يكون كاذبًا، وهو في هذه الحالة لا يحق له أن ينتسب إلى الجامعة ولا سلك الفراشين والخدمة السايرة»(3).
(2)
الدكتور محمود الطناحي ومناقشة الرسائل الجامعية
كما تناول الموضوع بشكل أكثر عمقًا وجرأة العلامة الدكتور محمود الطناحي، وهو يقارن بين السابق واللاحق؛ فيقول متناولاً مناقشة الرسائل الجامعية: «الذين شاهدوا مناقشة الرسائل الجامعية في الخمسينيات والستينيات ثم يشاهدونها الآن يرون فروقًا واضحة بين ما كان وما هو كائن، ولست من الذين يرون الماضي خيرًا كله، وأن الحاضر شر كله... ولكننا بإزاء مقارنة وموازنة ليست في صالح الحاضر.. ومن أعجب العجب أن المناقشة تكون حامية جدًا، ويُدخل المناقشان وجوهًا من النقص كثيرة على الرسالة، ثم تخلو اللجنة للمداولة، وتكون المفاجأة حصول الطالب على الامتياز أو مرتبة الشرف الأولى (ويا دار ما دخلك شر)، وأذكر أني كنت أناقش طالبًا في رسالة دكتوراه، ووجهت إليه أنا وزميلي مؤاخذات كثيرة، وحين خلونا إلى تقدير الدرجة أصر المشرف على مرتبة الشرف الأولى، وأصررت أنا وزميلي على التي هي دونها، فغضب المشرف غضبًا شديدًا، فقلت له: أيها الزميل العزيز، ألست ترى أننا وجهنا إلى الرسالة سهامًا كثيرة؟ فقال: بلى، فقلت: وأنت تصر على أن تُعطيها الدرجة العليا، قال: نعم، قلت: ما رأيك لو جاءتنا رسالة أخرى بهذا العنوان والموضوع وقد خلت من كثير من المؤاخذات التي أخذناها على رسالة تلميذك، ماذا كنا نُعطيها من التقدير؟ فحار وأبلس، ثم قال: خلاص يا دكتور، اعمل معروف متحرجنيش مع الطالب!. ومن الأمور المؤسفة أيضًا: إن الطالب حين يحصل على تقدير لا يعجبه يواسيه المشرف قائلاً: والله يابني أنا كنت عاوز أعطيك التقدير الذي تحبه، ولكن الزملاء غلبوني على أمري، وهذا لا يصح لأن رأي اللجنة جماعي، والمجالس أمانات. ومن قضايا تقدير الدرجة: التفرقة أحيانًا بين المعيد الذي يعمل داخل الكلية، وبين الطالب الذي يتقدم من الخارج، فالأول يعامل برفق، ويدخل إلى حلبة المناقشة هادئًا مطمئنًا لأنه يعرف ما سيؤول إليه أمره، والثاني هو ونصيبه، وما ذلك إلا لأن المعيد يُنظر إليه على أنه زميل المستقبل، وبعض الكبار يحبون أن يتخذوا يدًا عند الصغار، ولله في خلقه شؤون. ونعم أن بعض الشرفاء لا يعرفون هذه التفرقة، ومن ذلك ما حدث أخيرًا في كلية دار العلوم، حين أصر بعض الأساتذة على رفض رسالة دكتوراه قدمها مدرس مساعد بالكلية، لأنه قد ظهر أن الرسالة مسلوخة من كتب بعض الأساتذة، والغريب أن ذلك السارق قد وجد من يساعده وينتصر له من داخل الكلية، وبالله نستدفع البلايا!. وهذا السارق إنا جرأه على السرقة وأغراه بها أنه وجد بعض الأساتذة الكبار يسرقون ويدينهم القضاء، ثم لا تفعل الجامعة معهم شيئًا(4).
(3)
الشيخ حمد الجاسر ولقب الدكتوراه
وأخيرًا نورد كلمة العلامة حمد الجاسر، الذي تناول لقب الدكتوراه وحامل هذا اللقب، ووجه انتقاده لحامله، وهو يقدم رؤيته حول هذا الموضوع؛ بقول: «الدكتوراه.. لي أساتذة وإخوة ممن شرف بهم هذا اللقب الأعجمي، ولهذا فإنني أحس بألم شديد حين أتحدث عمن حاول أن يضيفه إلى اسمه بمختلف الوسائل حتى إذا تم له ذلك - وما أيسر أن يتم في أيامنا!! ظهر بيننا بمظهر العالم، وأغار على ما خلفه سلفنا الصالح من علم بأسوأ أنواع الإغارات، تحريفًا وتشويهًا وسرقة ومسخًا. ثم وجد في عالمنا من يتقبل منه كل ذلك وكيف لا والجامعات التي هي معاقل العلوم، ومنارات الهداية والرشاد هي التي مهدت له الطريق، لكي يحمل ذلك اللقب الذي يفتح أمامه كل الأبواب ليلج من أيها شاء، مدرسًا في الجامعة، أو باحثًا أو موجهًا في أي جانب من جوانب الثقافة، وفي أي معهد من معاهد العلم. إن الجامعة التي تمنح تلك الشهادات تقدم للطالب آلات التشريح لكي يقدم على جسم سوي خُلق في أحسن تقويم، حتى يُبرزه في أبشع صورة، ثم ينال كفاء عمله ذلك اللقب الذي يلوح به - كسيف أبي زيد الهلالي - دائمًا وأبدًا في ميادين العلم، غير هياب ولا وجل! وويل لمن يقف في وجهه أنه (دكتور) و(أكاديمي)..!!»(5).
وهكذا جاء ت انتقادات الثلاثة الذين عرضنا لأقوالهم بالنقد حول الإشراف على الرسائل الجامعية بداية من المشرف والطالب والمناقشين له حتى منحه الدرجة العلمية من ماجستير أو دكتوراه، ونخلص من هذا العرض عدة ضوابط مهمة، يأتي في مقدمتها قيمة البحث العلمي المقدم للمناقشة، وأهمية إعطاء الطالب الدرجة الحقيقية، إضافة إلى قيمة ذلك في إبراز قيمة الدراسة المقدمة من حيث كونها أتستحق تلك الدرجة أم لا، وثانيا: البعد كل البعد عن التشدق بلقب الدكتوراه، فهذا ما هو إلا تبيان لمكانة علمية لفرد لا بد أن يعترف بقيمته علميًا وهو الأولى، بدلاً من التفاخر الذي لا طائل منه، وثالثا: التواضع بقدر ما يمكن إفادة الآخرين بما حصل عليه أصحاب الدرجات العلمية من ماجستير أو دكتوراه فهم في اعتقادي يجب أن يتنبهوا إلى قيمتهم المضافة إلى مجتمع البحث العلمي.
... ... ...
1) حسين مؤنس: بلد شهادات، مجلة العرب، العدد: 5-6، 1 مايو 1981م، ص 371، 373.
2) حسين مؤنس: بلد شهادات، مجلة العرب، العدد: 5-6، 1 مايو 1981م، ص 375.
3) حسين مؤنس: بلد شهادات، مجلة العرب، العدد: 5-6، 1 مايو 1981م، ص 377.
4) محمود الطناحي: الرسائل الجامعية وساعة ثم تنقضي، مجلة الهلال، العدد: 6، 1 يونيو 1999م.
5) حمد الجاسر: الدكاترة والعبث بالتراث، مجلة العرب، مجلة شهرية تعني بتراث العربي الفكري، العدد: 5-6، 1 مايو 1981م.
محمد جمعة عبدالهادي موسى - باحث ماجستير، كلية الآداب، جامعة القاهرة