الشعرية هي إحساس مركَّب ومُتناهٍ، ورؤية «متمرحلة» ومتطورة في تعاملها مع الأشياء والأجواء، والعوالم النفسية والحسية فنياً وجمالياً وتشكيلياً.
لذا فكلما سمقت تلك الشعرية وتمايزت، وأُرفِدت بالتراث كعمق، وبالجديد كحداثة وتطور، أخذت «جغرافية» النص وبناؤه صيرورةً شعرية خاصة وواعدة وفريدة في آن، تملك جمالياتها في اللغة والحركة والأسلوب.
هذا ما يحاوله سعود اليوسف إلى حدٍّ ما؛ فقد تخلّص بناء النص لديه من بعض أسمال السذاجة والارتهان للآخر، واقتفاء الخطى دون محاولة فنية لمحو خطى السابقين من صدر نصوصه، وللتمويه أيضاً بأن هذا النص له هُوية تخصه تحديداً، فالشاعر لديه لغة غير مبتسرة... كاشفة، لا تعاني من خلل الشائع «القواعدي أو الصرفي أو العروضي»، ولا يُكِنُّ نية مبيتةً ومضمرةً نحو تجريبية متكلّفة، أو إبهام ملتبس بالعمق أو السرية، كما أنه لا يترك نفسه أو مخيلته لتجريبية متطورة ومتمردة فتأخذه إلى عوالم غير متمكن منها، ولا تسعفه خلفيته الروحية والنفسية والعقلية والخبراتية من أن يسيطر فيها على عالمه الفني جيداً، ولا يتبنى أيضا تلك التقليدية الكسول «الأسيانة» الثقيلة الخطى التي لا ترى غير من سبقها فقط أو عبّد لها الطريق وأنار لها السبُل، الشاعر هنا تأخذه الحيرة بين هذا الجديد الغامض الذي لا يعرف إلى أين سيأخذه، والغريب المطروق سالف الإبهار، حاصد الإعجاب، المرضي عنه، المتفق على خطوطه وملامحه، ولكن للأسف ساءت سمعته لأنه قدّم كل ما لديه.. هنا يقول الشاعر من قصيدة (للصحراء من بدويها):
« متوجساً أمشي كما يحبو السراب
متحسساً جسد الرمال الأنثوي
يكاد من شبق يسيل»
فالشاعر هنا في هذا المقطع يجسد حالته النفسية والإبداعية والتشكيلية أيضاً، فالتكوين التقليدي للصورة، والبناء المطروق لإبراز الحرقة والشبق (سواء كان مادياً مباشراً..أم روحياً غير محسوس)كذلك تلك الحيرة على مستوى الفكر، فما زال هو البدوي، وما زالت مفردات بيئته هي التي تسيطر عليه، رافضاً الدخول في جدل مع الآخر حميم وجذري، وقد بدأ يتخلّص من هذا تدريجياً في النصوص التي كتبها في دمشق أو غازل فيها «الشام» أو أهداها إلى شعراء لهم قامات رفيعة، أو عن طريق تبني مناحٍ فنية وجمالية لهؤلاء الشعراء.
الطرح الرومانسي «الإريتوكي» يسيطر على معظم النصوص، والذاتية الشديدة تستلب كل ثمرات القصيدة، « فشيفرة» النص في داخل تلك الذات وكل الأشياء تمر عبرها، فتتغير وتفقد كثيراً من جوهريتها وخصائصها (فالجميل يقل جماله... والقبيح يخرج من قلب قبحه جمالاً غير متوقّع)
وهذا من أحد وجوهه وظيفة من وظائف الفنّ المهمة، وهي «التشويه» ولكن من ناحية أخرى يحرم الأشياء من حضورها المستقل، فيحرم النص بالتبعية من تفردات وتمايزات وجماليات منوعة ومطلوبة ؛ فتنفتح الدلالات، وتأخذ مجازات القراءة والتلقي عبرها طرقاً تؤدي بنا إلى القدرة إلى اكتشاف الاختلاف والتمايز مع نصوص أخرى ؛ لذلك حين يقول الشاعر تفسـيرياً ومباشراً، ولكنه شعر:
«لأن الزيزفون
لم ينْم إلا في دمشق
كما ترى البدوي _عذرياً _
وفيّاً للنقاب
ولا يجيد سوى البكاء على الطلول»
فهذا التضاد الحاد والواضح الذي لا امتزاج فيه ولا تصالح أو توافق بين المدينة والحضر بليونتها وزهورها وتوشياتها ورفاهيتها الطقسية والحياتية، وبين البداوة حيث فقر مفردات البيئة «بمعنى تكوينات البيئة وتشكلاتها» ونقاء نفس البدوي وحضور دمعته السريع...
ولكن ربما يعوض الشاعر بعض ما تجاهله فنياً عبر تشخيص صوري وعبر تشكيلية تجريدية واشية ومتقنة، فالمجرد يُدخله في صورة المادي المؤنسن ؛ كي يحييه فنياً داخل نسقه الشعري:
«وصباي مشنوق
وما زالت على شهقاته
شذرات مبحوح الصهيل»
فالمجاز - كما نرى - قد يسترسل منه ويطول، ولأنه يدرك أبعاد (لعبة الفن) وحيل الإبداع، فإن شهوة تمديد ومط الصورة لا تأخذه، فيمزج المادي المؤنسن بالمجرد المشخص، أو المعنوي الروحي الحالّ في اللحظة:
« وحقائبي ملأى ابتهالاتٍ - هوىً -
لغمامة خجلى يراودها الهطول
لملمتُ صحرائي......»
في أتون المكان الشعري (الذاكرة ربما) تتباعد السكونية والتقليدية وهما تتجهان إلى الحركة الشديدة، ومحاولة التحديث والتجديد وإثبات المغايرة، إنها تراكيب معتقة في براميل الشعرية. فمن قصيدة (البحث عن وطن أو حتى عن منفىً!!)
«جفّت خُطاك على مرهَق الدرب
جفّت
وما زلتَ تغدق حلو الحدا
إلى أين
يا من تسافر في اللاشعور»
فالشاعر في حيرته المكانية/الواقعية يجسد حيرته الفنية والعقلية، فكأنه يحاول أن يتلمّس خطّاً له يبعده عن التأثر بمن سبقه تأثراً طابعاً ودامغاً وملموساً:
«إلى أين يا جارف التيه
هذي نجوم الهدى
تمد إليك اليدا»
فالشاعر - كأنه- يخاطب نفسه، فهو في م فترق طرق، ونجوم الهدى ( أي طريقه الخاص الذي يطمئن إليه - بغض النظر عن أي شيء يؤدي به إليه -
تناديه... تناديه، وتمد إليه اليد كي يكون نفسه فقط!)
من خلال هذه القراءة المحددة (القاصدة) نلمح بعض خصائص عالم سعود اليوسف الشعري، فهو:
أولاً: تسيطر عليه نزعة رومانسية أقرب إلى الكلاسيكية «وهذه صفة شعرية وليست عيباً أو منقصة» يتضح ذلك في اللغة السليمة المصقولة المعتدة بنفسها.
ثانيا: تتميز نصوصه «بدقة فنية واضحة»، فهو يتوسل بالأسلوب واللغة والفنيين في تكوين فضائه النصي.
ثالثاً: احتفاؤه بالمجرد وغير المحسوس، ومحاولته إدخالهما في فضائه الشعري
تجسيداً، وأنسنة، وتشخيصاً، وأخيراً تصويراً تشكيلياً.
رابعاً: له ملامح فنية واضحة، ولكن في طور التكوين والتطوير والاستقلال، فأجواؤه تتداخل مع أجواء شعراء أُعجب بهم وهضم عوالمهم جيداً، ولا غروَ أن يهدي إحدى قصائده لشاعر مجيد/ عمر أبو ريشة.. أو قصيدة (حديث المتنبي إلى خولة.. وشيء آخر) رافعاً صوت المتنبي في متن قصيدته.
خامساً: خلقيته الفنية الشعرية الممتازة، فيكاد تغيب عن شعره تلك الهنّات الأسلوبية واللغوية التي يعاني منها شعراء كثيرون ليس لهم مخزونه اللغوي والفني، ونعود للتأكيد على أنه ليس للتخصص اليد الطولى في ذلك.
ولكن الشاعر في النهاية يواجه أزمة يواجهها شعراء كثيرون غيره.. هي أزمة التواصل مع العصر الذي هو فيه.. عصر التجدد المستمر.. والنظريات الفنية المتعددة، فهل التمسك بالتراث والذود عن حياضه، ومحاولة إحياء العباقرة منه يجعلنا نقفز تلك الهوة؟ أم السباحة مع التيار دون معرفةِ إلام يؤدي، وبماذا سنرجع من صيد، وإلى أي شاطئ سنرسو؟
هذه المعادلة تحتاج من الشاعر/ سعود اليوسف كثيرَ تدبّرٍ وعميق تأنٍّ والحذرَ من اللهاث وراء كلِّ جديد مبهر، ومن كل قديم أثبت جدارته؛ لأن «الأحقية والجدارة» لا تتكرر، وما يناسب عصراً لا يناسب عصراً آخر أيضاً، وأخذَ الذاتي والبسيط والحياتي المتداول بعين الاعتبار الفنية والشعرية.
- كتبه/ محمد إبراهيم عقدة