أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إن ما تفخر به دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية وجود الحرمين الشريفين، اللذين تشرّف قادة هذه البلاد الطاهرة بخدمتهما ورعايتهما أيما عناية، ولا أدل على ذلك من اعتزاز الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- بلقب (خادم الحرمين الشريفين)، وهذا يشهد على تعظيم قائد هذه البلاد لهاتين البقعتين الطاهرتين، فأم القرى هي قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم وإليها يشدون الرحال للعمرة والحج، لتتوافد جموع المسلمين إلى هذه البقعة الطاهرة ليجدوا كل الرعاية والاهتمام.
لقد احتضنت دولة التوحيد المباركة الحرمين الشريفين، لتعكف على العناية بهما وبضيوفهما واهتمام خاص شمل شتى الجوانب وكافة الأصعدة، لقد تأسست هذه البلاد على الأصلين العظيمين وهما: كتاب الله وسنته، فهما منهج هذا الوطن، الذي يسير على منهج أهل السنة والجماعة، المنهج الواضح والجلي، وهو منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضوان الله عليهم، ومن تبعهم من التابعين وأئمة الإسلام، وهذا من نعم الله سبحانه وتعالى علينا، التي لا تعد ولا تحصى، ومنها: الاستقرار، والطمأنينة، ورغد العيش، الذي نُغبط عليه.
إن من يستعرض تاريخ وطننا الغالي المبارك المملكة العربية السعودية - بلاد الحرمين الشريفين- سيرى ويطلع على ما يسره، وتقر به عيناه، ويثلج صدره، ويجعله متفائلاً، يتطلع إلى المزيد والمزيد من العطاء والنماء، والتقدم والرقي؛ لأنها بلد العقيدة الصحيحة، والمنهج السليم، بلد الأمن والأمان، والطمأنينة والاستقرار، ورغد العيش وتطبيق شرع الله، وتنفيذ أحكامه وحدوده، لا يُعرف لها نظير في جميع بلدان العالم، وهذا مما نُغبط عليه، وهي نعمة توجب علينا الشكر.
لقد تعاهد الإمامان: محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله-، على الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمته، والدعوة إليه، وانطلاقًا من عهد الملك عبد العزيز -رحمه الله-، الذي بذل نفسه وماله ووقته وولده من أجل توحيد الجزيرة، وجمع شتاتها، وجمع كلمتها، والتوفيق بين أبنائها، وتحكيم شرع الله فيها، في وقت كانت أحوج ما تكون إلى ذلك، وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- قائد مسيرة هذه البلاد، وباني نهضتها، وهذه البلاد في عزة ومنعة، وقوة وثبات، وازدهار، ولا غرابة في ذلك ما دام أن ولاة أمرنا ينطلقون في حكمهم وأحكامهم، ومعاملاتهم وتصرفاتهم ومواقفهم، من المصدرين الأصليين، والمنبعين الصافيين للإسلام: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلَّم-، وما كان عليه السلف الصالح لهذه الأمة (عقيدة، وشريعة، ومنهجًا، وأخلاقًا) التي لا عز ولا نصر ولا تمكين إلا بالأخذ بها والسير على نهجها وهُداها، قال الله تعالى: الَّذِينَ إن مَكَّنَّاهم فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأمروا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأمور [الحج: 41]، وقال - صلى الله عليه وسلَّم-: «تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله وسنتي»، ومن هنا جاءت تلك النظرة الثاقبة، والانطلاقة الصائبة، والسياسة الحكيمة المبنية على الأصول الثابتة، والقواعد الراسخة لهذه الدولة من قِبَل ولاة أمرها في دفع عجلة البناء، وبذل كل ما يُستطاع من إمكانات مادية ومعنوية من أجل خدمة المواطن وإسعاده، والسهر على راحته، وتهيئة الجو المناسب له في كل ما يحتاج إليه في حياته اليومية، فردية كانت أو جماعية، حتى أصبح المواطن السعودي يُشار إليه بالبَنان، ويُنظر إليه نظرة تقدير واحترام، حيث أصبح رجل العقيدة الصحيحة، والعلم والأخلاق والآداب العالية، والأفكار والآراء الناضجة، له صولة وجولة في كل ميادين الحياة، فهو لله عابد، وله راكع ساجد، وفي العلم بارع، وفي الفضاء رائد، وفي البحار غواص، وللخير سابق، وفي كل مجال متمكن وفائق.
لقد وحد القائد المجاهد البطل الفاتح الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - غفر الله له- الجزيرة العربية وهي تعيش حالة سيئة دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، حيث قد شاع فيها السلب والنهب والفقر والخوف، مع ما واكب ذلك من عصبية جاهلية وتفاخر وتناحر، وشقاق ونزاع وخلاف واختلاف، عم وطم وشاع وذاع، حتى أصبح أهلها شذر مذر، للظلم بينهم جولة، ولقطاع الطرق صولة وسطوة، وللبدع والخرافات والجهل ظهور ونشوة مما لا يأمن الإنسان معه على نفسه وعرضه ودينه وماله، وهذا بصفة عامة، أما حال قاصدي الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة للحج أو العمرة أو الزيارة بصفة خاصة فهو محزن مبكٍ؛ قتل وسلب ونهب، القوي يأكل الضعيف والغني يستبعد الفقير، تخرج القافلة المكونة من العدد الكبير إلى الحج فقد تصل إلى البلد الحرام وقد لا تصل، وبالتالي فإن من يعود إلى أهله من أداء نسكه يكون في حكم المولود من جديد، عرفنا ذلك من الكتب، وسمعناه من آبائنا يحكونه عن آبائهم وأجدادهم الذين عايشوا تلك الحقبة.
إنه من توفيق الله ثم إخلاص المؤسس الملك عبد العزيز -رحمه الله- صاحب الأيادي البيضاء، والمجد التليد، الذي بذل نفسه وولده وماله من أجل إعلاء كلمة التوحيد، وترسيخ المعتقد الصحيح والمنهج السليم، وتطبيق شريعة الله، وتنفيذ حدوده وأحكامه، تبدل الخوف أمنًا، والفقر غنى، والظلم عدلاً، وتبددت سحب الظلام، وانكشفت بإذن الله الغمة، وانفرجت الكربة، واطمأن الحاج، وتوسعت الدنيا على المحتاج، وانحسر أهل الشر والفساد، وفرَّ الأشرار وأرباب العناد، واندحر أصحاب الجور والهوى والشهوة والشبهة، وأنار التوحيد الخالص أرجاء الجزيرة بل تعداها إلى أنحاء المعمورة، وفاح عبق المعتقد الصحيح الممتزج بسلامة المنهج في كل شبر من بلادنا الحبيبة.
ولأن المملكة العربية السعودية مهبط الوحي، وقِبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم يتوجهون إليها في صلواتهم ونوافلهم، ومتطلع أفئدتهم، ومقصدهم لأداء مناسك الحج والعمرة أو الزيارة فقد صرف جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله- جلّ عنايته، وفائق اهتمامه، وكبير جهده، ومعظم وقته في خدمة الحرمين الشريفين من توسعة وتهيئة لكل ما هو ممكن في جميع المجالات من أجل أن يستطيع قاصدو الحرمين الشريفين تأدية مناسكهم وشعائرهم وعباداتهم بيسر وسهولة واطمئنان وأمن وأمان، واستمرت هذه الجهود المباركة، والنظرة الخاصة، والمتابعة الدقيقة الصادقة من قبل أبنائه البررة الميامين حتى تقلد زمام الأمور، وولاية الأمر، وإدارة سدة البلاد من لقب نفسه بخادم الحرمين الشريفين حبًا لهما، وإخلاصًا لدينه، ووفاءً لعقيدته، ورعاية لوطنه وأبنائه بصفة خاصة والمسلمين بصفة عامة، واستمرارًا للعطاء، ومواصلة للجهود المباركة الخيرة التي بدأها ووضع لبنتها الأولى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله- حتى آتت ثمارها اليانعة ونتائجها السارة في هذا العهد الزاهر الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- الذي تلاقى فيه تراث الأجداد التليد العتيد بوفاء الأبناء والأحفاد المجيد، فاتضح من خلاله قوة الأسس، وسلامة البناء، وصدق التوجه المفعم بصحة المعتقد والتوحيد الخالص، إلى صدق الولاء وسلامة المنهج، ولذلك فإن كل من أدَّى مناسك الحج في العصر الحاضر يرى ما يثلج الصدر، وترتاح له النفس، وتقر به العين، ويلهج بسببه اللسان بالدعاء لمن قاموا عليه، وتابعوه وعملوا على بذل جهودهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية من أجل إنجاحه، فظهر الحج دائمًا منظمًا، مرتبًا، متسلسلاً، ناجحًا نجاحًا باهرًا، منضبطًا في حركة سياراته ومشاته، ومراقبته مراقبة دقيقة من حيث أماكن اختناقاته، مما يجعل الجميع يثنون ويشكرون ويدعون لولاة أمر هذه البلاد.
ولقد كان لما عمل ويعمل في المشاعر المقدسة من توسعة وتنظيمات أثر واضح في الإيجابيات والمميزات التي حصلت، ونتطلع إلى المزيد مما يسعى إليه ولاة الأمر، حفظهم الله.
إن مضرب المثل ومحط الإعجاب والافتخار والاعتزاز تلك التوسعة المنقطعة النظير للحرمين المكي والنبوي التي أولتها دولتنا الرشيدة جل الاهتمام والعناية، التي بذلت من أجل إتمامها وتنفيذها المقدرات والإمكانات الهائلة، ويضاف إلى ذلك تلك الخدمات المتميزة الظاهرة والملموسة التي تُؤَدَّى فيهما من سقاية ونظافة ورعاية ومتابعة واهتمام بالغ كانت النعمة أعظم، وشكر الله أوجب، والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم يطلب، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
إن كل ما تقوم به هذه الدولة المباركة مما يخدم ضيوف الرحمن تقدمه بنفس راضية مرتاحة، لا تقصد منه رياءً وسمعة، وإنما تقصد به وجه الله وخدمة الإسلام والمسلمين فوق كل أرض، وتحت كل سماء، ولذلك هي مستمرة في بذل كل ما يستطاع من أجل تسهيلها وتيسيرها أمور الحج وأكثر ما تقوم به في هذا المجال يتم بهدوء وصمت مما يجعل الأعمال هي التي تتحدث، حيث إن كثيرًا من الناس لا يعلمون عن المشروعات الكبيرة والضخمة في الحرمين الشريفين أو المشاعر المقدسة حتى تصبح واقعًا حيًّا يستفيد منها الحجاج والمعتمرون وزوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - .
وإن من المفاخر في الحج مبنى الجمرات العظيم الذي هو أكبر مبنى مسلح بالحديد والأسمنت في العالم، ولقد أفاد كثيرًا في التوسعة في رمي الجمرات، وتنظيم الحجاج، واستيعاب أعداد كثيرة منهم، ومن محاسنه حسن الطرق المؤدية إليه والخارجة منه، بحيث لكل جزء من منى ومن خارج منى طرق لا تلتقي بالطرق الأخرى، لكيلا يحصل الزحام، وقد زُين بتلك السلالم الكهربائية، والأبواب بين كل دور ودور وغير ذلك مما يحتاج إلبه الحجاج للوصول إلى الجمرات.
إن ما يُبهر الإنسان المسلم حاجًا كان أو زائرًا ما هيئ من وسائل النقل المتنوعة والمختلفة والمتميزة وفي مقدمتها قطار المشاعر بكل ما جهز به من وسائل تقنية حديثة وأساليب متقدمة وتشغيل فني دقيق ومتابع مما يسهل على حجاج بيت الله تأدية مناسكهم والتنقل بين المشاعر براحة وطمأنينة، وغير ذلك من الأعمال والجهود والخدمات الجليلة والدقيقة، الكبيرة والصَّغيرة التي لا يمكن الإحاطة بها أو ذكرها في مثل هذا المقال.
كل ذلك لخدمة الحرمين الشريفين، وحجاج بيت الله الحرام وزوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -، فلقد قامت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- بتوفير الأجواء المناسبة، وتهيئة الخدمات، وتيسير الأمور لراحة ضيوف الرحمن.
لقد شهد الناس في حج هذا العام ما يثلج الصدر، وترتاح له النفس، وتقر به العين، ويلهج بسببه اللسان بالدعاء لمن قاموا به وعملوه، وتابعوه وحرصوا أشد الحرص على بذل الجهود والإمكانات المادية والمعنوية من أجل إنجاحه وإظهاره بالصورة المطلوبة والمرغوبة، فجاء سهلاً، منظمًا، مرتبًا، متسلسلاً، ناجحًا نجاحًا باهرًا، منضبطًا في حركة سياراته ومشاته، ومراقبته مراقبة دقيقة زمانية ومكانيه، وكثير ممن حج هذه السنة يثني على التنظيم والترتيب، وحسن التفويج، وعدم التعطل والتأخير، وهذا وغيره من الخدمات والتسهيلات يدخل في قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]، ويجب علينا شكر الله على هذه النعم العظيمة في الحرمين الشريفين وما تم عمله في سنوات قليلة مقارنة بما هما عليه على مرِّ العصور، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ أن عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
وقد جاء في كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله تعالى- بمنى للوفود المشاركة في حج هذا العام: ((إن المملكة العربية السعودية سخرت كل إمكاناتها لخدمة ضيوف الرحمن والسهر على راحتهم، وتوفير كل السبل لتسهيل أدائهم لمناسكهم بكل يسر وطمأنينة، والمملكة ترفض رفضًا قاطعًا أن تتحول هذه الشعيرة العظيمة لتحقيق أهداف سياسية أو خلافات مذهبية، أن الغلو والتطرف توجه مذموم شرعًا وعقلاً وحين يدب في جسد الأمة الإسلامية يفسد تلاحمها ومستقبلها، وصورتها أمام العالم، ولا سبيل إلى الخلاص من هذا البلاء إلا باستئصاله دون هوادة، والقضاء على هذا الوباء.
إن الإسلام هو دين السلام والإخاء والمحبة والسلام، وما يشهده العالم الإسلامي اليوم في بعض أجزائه من نزاعات وفرقة وتناحر يدعونا إلى بذل كل الجهود لتوحيد الكلمة والصف، والعمل سويًا على حل هذه النزاعات، والمملكة تؤكد حرصها الدائم على لم شمل المسلمين ومد يد العون لهم والعمل على دعم كل الجهود الخيرة والساعية لما فيه الخير في كل البلدان الإسلامية)).
هكذا هم ولاة أمر هذه البلاد في اهتمامهم الكبير بالحرمين الشريفين، وخدمة حجاج بيت الله الحرام وزوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -، يتوارثون هذا الاهتمام والمجد كابرًا عن كابر في بذل وعطاء وصدق وإخلاص وكرم وسخاء وحرص ووفاء وبلا منة ولا أذى ولا سمعة ولا رياء وإنما همَّهم الأسمى، وغايتهم العظمى القيام على دين الله وخدمة الحرمين الشريفين، وهذا والله هو مصدر العز والافتخار والطمأنينة والاستقرار والأمن والأمان والنصرة والتمكين.
إن الإنسان المنصف، الذي يتميز بالموضوعية والنزاهة، ويبحث عن الحق، وميزانه القسط والعدل، ليدرك إدراكًا تامًا وقاطعًا، ويعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا يمكن أن يقوم بهذه الأعمال، ويؤدي هذه الخدمات الهائلة للحجاج، أمنية كانت، أو صحية، أو سكنية، أو غذائية، أو نقلية، أو غيرها سوى هذه البلاد، بل لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن ذلك لا تستطيعه ولا يمكن أن تقوم به جميع البلدان الإسلامية مجتمعة على ما هي عليه الآن، مهما قيل ورُدِّد، وأُعيد وأُزيد، ومهما نعق الناعقون، وزيف المزيفون، وأرجف المرجفون، وبهرج وتشكل وتلون الحاسدون المغرضون.
والحقيقة أن كل المخلصين يشهدون أن المملكة العربية السعودية تقوم بجهود جبارة، والله تعجز عنها أي حكومة في العالم في خدمة الحرمين الشريفين، فملايين الحجاج والمعتمرين ينعمون بنعمة الأمن، ويعبدون الله بحرية وطمأنينة، وتذلل لهم كل الخدمات بما يفوق الوصف، وولاة الأمر - وفقهم الله - لا يدخرون وسعًا في التخطيط والتجديد في كل ما يخدم الحجاج والمعتمرين.
إن المتأمل للمشاعر المقدسة يرى أمورًا عجبًا من حيث وعورة التضاريس وصعوبتها، وتكدر المناخ وتغيره، جبال شاهقة، وأودية ضيقة، وطرق وعرة، وحر شديد، وشمس محرقة، وإذا انضاف إلى ذلك العدد الهائل، والجمع الغفير من الحجاج، الذين يعدون بالملايين، يزداد العجب والاستغراب! كيف يكون هذا؟! وهل هو ممكن؟!.
إنه من توفيق الله العلي القدير، ثم بتلك الجهود العظيمة المبذولة التي تقوم بها المملكة العربية السعودية، التي لا حدود لها، ذُللت تلك الصعاب، ورُوِّضت تلك الأماكن، فأصبحت مكانًا سهلاً ميسرًا أمنًا مطمئنًا، يجد فيه الحاج بغيته، ويصل إلى غرضه، ويحقق رغبته، ويؤدي مناسكه براحة وطمأنينة وخضوع وتذلل وخشوع، ولا أدلَّ على ذلك من التوسعة الضخمة لمبنى الجمرات بحيث يرمي الحاج وهو مرتاح، بل رأيت ورأى غيري كبار السن والصغار بل من يركب العربات وهو يرمي بجانب حافة الجمرة بكل يسر وسهولة، وهذا مما كان قديمًا من المستحيلات.
ويشهد على كذلك التوسعة العظيمة للمسجد الحرام والمطاف، بحيث أصبح يستوعبان الأعداد الكثيرة جدًا مقارنة بالسابق، وقد حدثني من طاف في وقت ذروة كثرة الطائفين أن الزحام خفَّ كثيرًا بسبب سعة مساحة المطاف.
إن ما يلفت نظر الإنسان ويدهشه في مظاهر الحج، مع اعتزازه وافتخاره، ذلك الحضور الفاعل والوجود المستمر والمتميز لرجال الأمن البواسل في كل وقت ومكان على اختلاف مراتبهم، وتنوُّع اختصاصاتهم؛ ليقوموا بخدمة ضيوف الرحمن، وإعانتهم ومساعدتهم، وإرشادهم، والحفاظ على أنفسهم، وممتلكاتهم، ومساكنهم، ومركوباتهم، كل ذلك يتم بفضل الله رغم ما يواجهونه من ضغط في العمل، وإحراجات لا تتصور، وكثرة في أعداد الحجاج وتنوع بلدانهم وثقافاتهم وأخلاقهم، وتعدد لغاتهم، إلا أنهم تميَّزوا بأخلاق دمثة عالية، وآداب جمِّة راقية في التعامل مع الحجاج، رائدهم في ذلك تعاليم دينهم الحنيف، مع الإخلاص والاحتساب في خدمة دينهم وعقيدتهم، وبلادهم، وولاة أمرهم، ولا غرابة في ذلك ما دام أنه يقف وراءهم بعقله الكبير وعاطفته الجياشة وأبوته الحانية ووفائه المعهود وتوجيهاته السديدة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -وفَّقه الله-، ويشرف عليهم، ويتابع أعمالهم بدقة ووعي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز ولي العهد وزير الداخلية، ومتابعة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي ولي العهد وزير الدفاع - حفظهم الله-.
إلا أنه رغم هذه الأعمال الجليلة، والخدمات المتميزة، والإيجابيات الكبرى التي تقدمها هذه الدولة المباركة لشعبها بصفة خاصة، وللمسلمين عامة، ولحجاج بيت الله من جميع الجنسيات على وجه الخصوص، لم تسلم من انتقاد الحاسدين، وتشويه الحاقدين الذين يسعون لإثارة الفتن والقلاقل، وإيجاد الفرقة والتناحر، وبث الخلاف والاختلاف بين أبناء الأمة، ونشر الأفكار المضلة، والمبادئ الهدامة والغريبة عن مجتمعنا، متجاهلين ومتناسين أن هذه البلاد هي بلاد العقيدة الصحيحة الصافية، بلاد تطبيق شرع الله وأحكامه وحدوده، بلاد العلماء الأفذاذ المشهود لهم بالتقوى والصلاح ومعرفة مصالح الأمة وما يصلحها ويحييها.
وأين القسط والعدل ممّن يتعامى عن حسنات كالجبال لقادة هذا البلد؟! وعن جهودٍ تنوء بحملها الرُّؤوس الثقال؟! ومنجَزات ومكتسَبات لا تستوعبها لغة الأرقام؟! ونِعَم لا تعد ولا تحصى؟! ألا يتّقي الله أولئك في أنفسهم وفي أبناء مجتمعهم؟! ألم يعلموا أنهم بهذا الظلم حرَموا أنفسهم من نعمة الألفة والمحبَّة، والمواطنة الصادقة، وولجوا في سراديب مظلمة يجرُّون بها على المجتمع الويلات؟!
إنّ هذا المبدأ الشرس، والظلم الوخيم، ركز عليه أصحاب المناهج المنحرفة والمنتمين للجماعات والأحزاب والتنظيمات المعادية واستغلهم أعداء هذه الدولة المباركة، وقامت عليها دعواتهم، فمن يتأمَّل أساليبهم وأطروحاتهم وما تتقيؤه أفواهُهُم يُدرِك التعصب الذميم، والهوى المقيت، والظلم البيِّن الظاهر، والله المستعان.
والغريب في أمر بعض أولئك القوم أنهم يدّعون الإصلاح بزعمهم، ويتمسحون باسم الدين، ويدندنون حوله، وما علموا أنهم أبعد الناس عن معرفته وعلمه، فضلاً عن تطبيقه وترسم مبادئه ومقاصده، وأنهم أقرب بفعلهم إلى أعداء الله، وأعداء رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - والأمة الإسلامية جمعاء، حيث إنهم بأعمالهم هذه ومقترحاتهم وأطروحاتهم الهزيلة والمتردية ضد هذه البلاد المباركة يسعون في تحقيق أهداف أعداء الإسلام الذين عجزوا عن تحقيقها طوال السنوات الماضية، والدهور القديمة.
فالأعداء لـمَّـا استحال عليهم الوصول إلى مقاصدهم الرامية إلى إفساد إيمان وأمن هذه البلاد، رغم كل ما بذلوه من فكر وتخطيط ومادة، لجؤوا إلى طريقة خبيثة ماكرة تحقق لهم مطلوبهم ومرادهم الخبيث، وهي ضرب أهل هذه البلاد بعضهم ببعض، وقد وجدوا في بعض ضعاف النفوس والإيمان مرتعًا وخيمًا لهم لتنفيذ أجندتهم ومخططاتهم، فراحوا يرفعون شعارات جوفاء، وأفكارًا عوجاء، وسلكوا طرقًا هوجاء مشبوهة، وغير مشروعة، وتفننوا في الاغتياب والنم، والشتم والسب، وكشف العورات، واستحداث البدع المنكرة، والأكاذيب المزيفة، والأباطيل المهلكة، وإبداء المساوئ، والاتباع لكل ناعق، واللجوء إلى الأعداء، وقلب الحسنة لسيئة، واتخذوا من تلك القاعدة الخبيثة: (الغاية تبرر الوسيلة): مبدأً لهم، ومن ليِّ أعناق النصوص منهجًا للاستدلال على أهوائهم وشهواتهم، متَّبعين في ذلك طريق الذين في قلوبهم زيغ؛ لأنهم يتبعون ما تشابه من النصوص ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُم الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ أمنًا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أولو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7]، فبئس المبدأ ما اتخذوه من ليِّ أعناق النصوص، وبئس المنهج والعمل والمنطق، لأنها مخالفة لشرع الله نصًا وروحًا، بل إن العقول المستقيمة، والفطر السليمة، تمقت عملهم، وترده، وتنكره، وتشمئز منه.
ولذلك فإنه يجب على المسلم أن يبتعد عن هذه الأمور المضلة كل البعد، وأن يفر منها فراره من الأسد والنار؛ لأنها معدية ومحرقة، ومهلكة، تورث الحقد والبغضاء، وتوجد الشقاق والنزاع، وتشعل الفتنة وتوقظها، وتزرع القلاقل والاختلاف.
ويجب على المسلم أيضًا إزاء ذلك أن يكون فطنًا حذرًا مدركًا، متثبتًا في أقواله وأفعاله، فما كل يُقال صحيح، وما كل ما يُعلم صحيحًا يُقال، وليس لكل إنسان أن يعمل كل شيء، من دون قيد أو حدٍ أو ضابط؛ لأن الناس لو سلكوا ذلك لحصلت الفوضى، ولصار الناس شذر مذر، لا رادع لهم ولا خلق، ولا قائد ولا موجِّه، وحينئذٍ يحصل ما لا تحمد عقباه، ويُبكى بدل الدموع دمًا، فالاتباع يكون لكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يؤخذ منها أحكام الدين والدنيا، ويُرجع إليها عند التنازع والاختلاف، لتحكم الأمور، وتضبط، فتكون سليمة صوابًا مقنعة لكل من يبحث عن الحق، أما صاحب الهوى، ومن مُلئ قلبه بالحقد والحسد والبغضاء فلا يمكن أن يقتنع أو يرجع إلى الحق، ولو وضعت الشمس في يمينه والقمر في شماله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وليُعلم أن الرجال يعلقون بالحق، وليس يعلق الحق بالرجال، فالحق يبقى والرجال يموتون، والحق يعلو ولا يُعلى عليه، مهما طال الزمن، ومهما كثر الأخذ والعطاء، والقيل والقال؛ لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح ولا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس وأما الزبد فيذهب جفاءً.
فلذلك أوصي نفسي وإخواني بتقوى الله وطاعته، والسمع والطاعة في غير معصية الله لمن ولاهم الله أمرنا، وأن يكون رائدنا المحبة، والتعاون على البر والتقوى، والاتفاق والائتلاف، والالتفاف حول قادتنا وولاة أمرنا، وإعانتهم على أمور دينهم ودنياهم، ومناصحتهم بالطرق الشرعية؛ لأن أبوابهم ومكاتبهم مفتوحة لذلك، وينبغي الذب عنهم، وعن أعراضهم، والدعاء لهم بالصلاح والاستقامة، والنصرة والتمكين، والقيام بحقوق رعيتهم، وما تحملوا من أمانة ومسؤولية، وأن نكون معهم يدًا واحدة على من أراد شقَّ عصا اجتماعنا، وشذ عن الجماعة، وأراد السوء لهذه البلاد وأهلها رعاة ورعية.
ثم الثقة بعلمائنا ومشايخنا الذين أمضوا أعمارهم في العلم والتعليم، وخدمة الإسلام والمسلمين، حتى صار يُشار إليهم بالبنان، ويُقصدون للأخذ عنهم من كل مكان، ويُصدر عن علمهم وفتاواهم، ويوقف عند أقوالهم وترجيحاتهم داخل البلاد وخارجها، سواء كانوا ممن توفي كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وشيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمهما الله-، أو من الأحياء الكبار كسماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله آل الشيخ، وفضيلة الشيخ العلامة صالح بن محمد اللحيدان، وفضيلة الشيخ العلامة الاستاذ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، فوالله لهم للناس كالجبال للأرض يرسونهم ويثبتونهم، ويبيِّنون لهم الخطأ من الصواب، والحق من الباطل، بأسلوب ثابت رصين، وحكمة بارعة، وتوجيه متميِّز، فهم في زمننا أكثر الناس علمًا، وأقواهم إيمانًا، وأطولهم تجربة ومراسًا، وأعرفهم بمصالح الأمة، وأشدهم على المخالفات والمنكرات، وأبعدهم تلمُّسًا لمواطن الحكمة والدعوة إلى الله على بصيرة، فعند الشدائد تبرز جهودهم، وتتضح مكانتهم، وليس للناس إلا الرجوع إليهم والأخذ عنهم ليعطوهم الرأي السديد، والقول الصائب في جميع ما يعن لهم من مشكلات، فيسيروا على هدى وبصيرة في أمور دينهم ودنياهم، لذلك فإنه يجب علينا أن نتعامل معهم بكل تقدير واحترام، وننظر إليهم نظرة إعزاز وافتخار وإجلال، وأن نتهم آراءنا واجتهاداتنا أمام آرائهم واجتهاداتهم؛ لتسير أمورنا وفق الشرع، وعلى ما نحب من الخير.
كما أنبِّه إلى أن المواطن الصادق، والمخلص لدينه ثمَّ وطنه وولاة أمره يسعى لجلب كل خير ودفع كل شر بكل ما يستطيع، وأن المواطنة الحقّة لا تقوم إلا على رعاية حقّ المجتمع؛ فهي تقتضي أن يتحمَّل الإنسان مسؤوليته أمام الله ثمَّ أمام مجتمعه، وأن يستشعر أنها مسؤولية عظيمة تقصر دونها المسؤوليات، مسؤوليته في الحفاظ على الثوابت التي هي أساس العزّ والتمكين، وفي العقيدة والعبادة والمعاملة والسُّلوك، ومسؤوليته في الحفاظ على الأمن بمعناه الشمولي، ومسؤوليته في التكاتف والاجتماع، وإزالة أسباب الفرقة والاختلاف، والوقوف صفًّا واحدًا ضدّ من يريد زعزعة هذا المجتمع، وإدخال أسباب الفرقة والخلاف، واستهداف الوِحدة؛ تحقيقًا لمقصد الشرع من جمع الكلمة بين الرَّاعي والرعية، وهذه المسؤولية في كل وقت، ولكنها تكون أكَّد وألزم حينما تبرز مظاهر الفرقة وتقوم فئة الضلال والانحراف بما تقوم به من أحداث إجرامية، ورصد متعمَّد لوسائل الهدم والتدمير، والفساد والإفساد يُبنَى على أفكار منحرفة، وصُوَر من الغلوّ الذي يُلبَس بلباس الدِّين.
وقد كنت ممن حج هذا العام ورأيت ما يسر الخاطر ويثلج الصدر ويبعث على مزيد من الفأل في كل ما يخدم ضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين، فقد وفرت جميع الخدمات ويسرت سبل الحج بشكل عجيب لا يمكن أن يعرفه ويدرك حقيقته إلا من حج وأدى هذه الفريضة، وقد رأينا حجاج بيت الله يثنون على جهود خادم الحرمين الشريفين وحرصه ومتابعته لكل صغيرة وكبيرة في هذا الحج الأمر الذي معه أجمعوا على أن الحج في هذا العام نجح بكافة المقاييس.
أسأل الله العلي القدير يحفظ وطننا الغالي، وأن يوفق ويسدد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، وسمو ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ويعزهم ويمكنهم ويرفع من شأنهم، وأن يحفظ حجاج بيت الله من كل سوء ومكروه، إنه سميع مجيب.