د. عبدالحق عزوزي
هناك سؤال وجيه يطرحه اليوم العديد من المتتبعين عن أسباب سيادة الجمود وغياب ثمرات الإصلاح وعن أسباب القطيعة مع الفكر الإصلاحي لكي تظهر مفاهيم كان لها من الأثر ما لها في ظهور تيارات أصولية، كالجاهلية والحاكمية والشمولية والتكفير... نقولها ونكتبها للمرة الألف أن العلوم الإسلامية قد دلفت اليوم نحو قُطب التقليد، حينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات؛ المعنوية و المادية. فحين استُبدل كما يكتب العلامة أحمد العبادي واقع «قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك» (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب هذه الجملة الرائعة لعبد الله بن عباس وكان فتى ساعتئذ)، بواقع مختلف، واقع «صه! واخرس قاتلك الله!»، بدأنا نرى بعض العلماء يتبوّأون مقامات فيها من الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق ما قلص من الهوامش النقدية، وضيّق من مجالات الاجتهاد، كما أدّى إلى ظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان.
كما أن هناك إشكالاً نجده منساباً في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلق بقضية الثابت والمتحول، فحين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم؛ حصلت مشاكل كثيرة.
ثم إن العائق المتمثل في قضية الباراديغمات؛ أي الأنساق والأطر المرجعية والمركبات المفاهيمية التي تقود عمليتنا التفكيرية والتحليلية، وتؤطر أضرب النظر الذي نستعمله ونوظفه.. وهذا أمرٌ لم يُعطَ حقه، لتحرير وتجريد الباراديغمات الكامنة وراء علومنا ومعارفنا الإسلامية حتى نتأكد من قرآنيتها وسلامتها، وحتى لا تبقى هذه العلوم والمعارف خاضعة لباراديغمات غير سليمة، يُضفى عليها بغير حق سربال القداسة، ويكون لها من التأثير السلبي علينا وعلى تاريخنا ما يكون.
ولعمري إن هذه العوائق التي يتحدث عنها زميلنا الأستاذ العبادي وغيرها حين استحكمت صيّرت العلومَ الإسلامية كما استقرت بعدُ، في غير قليل من مناحيها وأبوابها تضيق مناهجها دون الاجتهاد والإبداع.. وهاته مصيبة كبيرة وداهية عظمى خاصة عندما تسبب في تحجير العقول وتلويث قلوب الشباب والكبار وتودي بالحكمة والبصيرة التي عليهما قوام الفكر الصحيح وتجعل من الاجتهاد مسألة مستعصية ومن الحوار مبتغى مفقوداً ومن التعايش بين أبناء الوطن وبين الأنا والآخر ضرباً من الخيال.
ومن المسائل الخطيرة التي لوثت وما زالت تلوث عقول وأفئدة الآلاف من المسلمين هي التكفير أي استحلال دم الآخر، بل وإقصاء حتى المخالف من الإسلام، وقد انتبه إلى هذا الباب العديد من العلماء وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي (ت505ه) منذ قرون خلت في بعض من تآليفه ككتاب «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، وكتاب «الاقتصاد في الاعتقاد»، فهناك من أهل الحسد والتعصب من يرى أن العدول عن مذهب ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال ومنشأ ذلك حسب الغزالي «قصور في النفس، وهو التعصب واتباع الهوى والثاني قصور في العقل، وهو الجهل (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب 72) وأكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع الهوى دون التصلب للدين» لأنه من تربى على مذهب معين، وقرر عنده أنه الحق وما خالفه الباطل لاشك أن ذلك متمكن من قلبه لا يكاد يفارقه كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وإذا رأى شيئاً غيره وسمه بالبطلان، وصاحبه بالإبطال، بل قد يصل به التعصب لمذهبه أن يقبل المسألة المحررة ويصدق بها، ظناً منه أنها مذهبه، فإذا سمع أنها لمخالفه، كذب ما صدق به، وأبطل ما حققه، ويقول دائماً الغزالي: «والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل»، ولا غرو أنه يتجلى في القصور عن معرفة مسائل الخلاف التي هي أصول، قد يقع فيها التكفير بضوابطه، ومسائل الخلاف التي هي فروع، وما يدخله التأويل وما لا يدخله، وغير ذلك من المسائل التي لا ينبغي إطلاق التكفير إلا بعد ضبطها.
والمشكلة الكبيرة هي أن التكفير حكم شرعي يؤدي إذا ثبت إلى إباحة المال وسفك الدم، والحكم على البشر بالخلود في النار، وللأسف الشديد هذا منهج التكفيريين اليوم من أهل داعش والقاعدة ومن وإلى نحلهم، فتجدهم ينحون نحو التبسيطية المخلة، فالأمر إما حق أو باطل، والموقف إما هدى أو ضلال، والألوان إما أبيض أو أسود، والحاكم إما ملاك أو شيطان، والشخص إما مسلم أو كافر، فلا ركيب ولا تنسيب ولا تطييف ولا تعقيد ولا تشابك، وإذن فلا اختلاف ولا اجتهاد ولا عقل، ولا خطأ ولا شك ولا حرية ولا تطوير ولا تحسين، وإنما الأشياء بسيطة حاسمة جاهزة حازمة.