أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: يدخل في تركيب البرهانِ تحليلُ كلِّ دليلٍ إلى موضوعه الذي يتعلَّقُ به، أو استخراجُ البرهانِ المراد من براهينَ كثيرةٍ؛ فمثال الأوَّلِ كلامُ أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى في المنْعِ من الحجرِ على غيرِ المجنون، وغير الصغير.. قال: «والحقُّ الواضحُ هو ما قلناه؛ وهو أنَّ كلَّ بالغٍ مخاطَبٌ مكلَّفٌ أحكامَ الشريعة؛ فحكمُهم كلُّهم سواءٌ في أنهم مندوبون إلى الصدقة والعتق، مباحٌ لهم البيعُ والنكاح والشراء، محرَّمٌ عليهم: إتلافُ المال بالباطل وإضاعتِه والخديعة عنه، والصدقةُ بما لا يُبْقِيْ لهم غِنىً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة عن ظهْرِ غِنىً، وابدأ بمن تعول»، وكما قال عليه السلام: «الدين النصيحة.. قيل: لمن يا رسول الله؟.. قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وكما قال عليه السلام: «ليس منا مَنْ غشَّنا»، وكما قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} [سورة البقرة /9]، وكما قال تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [سورة الإسراء/ 26]، وكما قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [سورة الإسراء /29].. وكلُّ مَنْ تصدق وأعتق وفعل الخير عن ظهر غِنىً نُفِّذ، ولم يحلَّ ردُّه، وكل من أعتق وتصدق عن غير ظهر غنى رُدَّ وبطل؛ لأنه لا طاعةَ إلا ما أمر الله تعالى به، ولا معصيةَ إلا ما نهى الله عنه؛ فالصدقة بما لا يُبْقِى غِنَىً معصيةُ، والصدقةُ بما يبقي غنى طاعة.. وكلُّ من باع أو اشترى فخدَع أو خُدِع فمردود؛ لأن الله تعالى حرم الخديعةَ والغش.. وكلُّ من باع أو اشترى فلم يَغْبِنْ ولا غَشَّ فنافذ؛ لأن الله تعالى أباح البيع.. وكل من أنفق في معصيةٍ فلساً فما فوقه فمردود، وكل من أنفق كما أُمر قلَّ أو كثر فنافذ لازم».. [المحلى 8/283/ المنيرية].
قال أبو عبدالرحمن: ومن الثاني (سواء أصحَّ استدلالُه، أو لم يصح) منْعه من القياسِ ببراهينَ مركَّبةٍ مؤدَّاها أنَّ القياس منهيٌّ عنه.. قال رحمه الله: «وهذا بيِّن في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [سورة آل عمران/103]، وفي قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [سورة البقرة/ 229]، وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء/36]، وفي قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة/169].. قال أبومحمد: ومن قال بقياسٍ فقد تعدَّى حدودَ الله، وقفا ما لا علم به، وأخْبَر عن الله تعالى بما لا يعلم أحدٌ ما عند الله تعالى إلا بإخبارٍ من الله تعالى بذلك وإلا فهو باطل)).. [الإحْكامُ لأصولِ الأحكامِ 8/395 /دار الكتب العلمية].
قال أبو عبدالرحمن: العبارةُ مُتَلَعْثِمَةٌ؛ وبيانُها أنَّ القائلَ بالقياس قد قفا ما ليس له به علم في زَعْمِ أبي محمد؛ لأنَّه أخْبَرَ عن الله سبحانه وتعالى بما لا يُعْلمُ إلَّا بخبر من الله بإجازةِ القياسِ أو الأمْرِ به.. وستأتي مناسبة إن شاء الله تعالى عن تحقيقُ الحقِّ في العملِ بالقياس.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.