يسير في الصباح ذاهبا إلى عمله وبشكل لا منطقي يتجاوز المخرج الذي يصله بمكان عمله ليضطر أن يستمر في شارع طويل وممتد ثم يقف أمام إشارة المرور؛ كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف وقبل أن يقف عند الإشارة المرورية يشاهد امرأة تحمل طفلها على كتفها تتسول مالا من المتوقفين فيستشعر بقلبه طاقة صدقها وأنها تستحق من مال الله الذي لديه فيستجيب لصوت قلبه ويعطيها. وهو يمارس التمعن في كل ما حدث خلال الدقائق الماضية فيدرك حينها؛ أن تجاوزه للمخرج الصحيح؛ إنما هو صحيح وأن ذلك جزء من الرسمة الكلية الشاملة كما أنه فهم أن الرسالة من تجاوز المخرج إنما هو (إعطاء تلك المرأة المسكينة مبلغا ماليا) وهو الآن ينتظر بعض التجليات المهمة في حياته. إذ إن هذا الحدث الجزئي إنما هو مرتبط بالصورة الكبرى/الشاملة لخط حياته وهكذا هي سنة الوعي أيها القراء:
(أحوال يومية+ مراقبة وانتباه+ عطاءات باستمتاع+ اهتمام بأحاديث القلب وتطبيق مباشر لما يقول+ تمعن وتحليل). إن الوعي مسألة رفيعة الشأن كبيرة المقام لها ارتباطات كثيرة بعدة أبعاد ومن هذه الأبعاد بعد المراقبة إن هذا البعد هو أساس في عملية الوعي -إن لم يكن هو الوعي- التي نتحدث عنها وهو ركن ركين وركيزة مهمة. إن بعد المراقبة أشبه ما يكون ببرج عال يتولى تنظيم ثلاثة مسارات داخلية وحقلين خارجيين؛ أما المسارات الداخلية فهي مسار الأفكار ومسار المشاعر والثالث الجسد بحيث تخلق فرصا أكثر للانسجام والوئام والتفاعل الخلّاق بينهم, وأما الحقول الخارجية فالحقل الأول: ردات فعلك تجاه الوسط الذي تحتك فيه. والحقل الثاني: طريقة تعاملك واستخدامك للأشياء. ولذلك نجد الفروق واضحة وجلية بين الأفراد كل حسب درجة مراقبته, وإن من أعمق نواتج المراقبة؛ التنظيم الذي تتولاه المراقبة وإن من معاني المراقبة الحراسة ولنتناول توضيح المراقبة/الحراسة على ثلاثة مستويات مستوى الأفكار ومستوى المشاعر والثالث الجسد فنقول: إنك عندما تكون مراقبا لأفكارك فهذا يعني أنك تقوم بدور الحارس فلا تقبل من الأفكار سواء ما يصدر منك أو ما تستقبله من الآخرين إلا أطيبها وأنورها وأزكاها وقل نفس الشيء عندما تكون حارسا لمشاعرك فأنت لا تسمح بأن يصدر منك ولا تستقبل إلا ما كان في ترددات الجمال والحب والسلام والنور والبهجة وحتى عندما تمر بك بعض ترددات الحزن لأي سبب كان فإن كنت مفعلا لبرنامج الوعي بالمراقبة لن تسمح لهذه الترددات بأن تطيل البقاء نعم نقبل ببعض لحظات الحزن لبعض مواقف الحياة ولكن لا نعيش فيها حكايات درامية مليئة بالغصص والآلام والتأنيب وندب الحظ والمستوى الثالث المراقبة على مستوى الجسد فعندما يظهر على جسدك عارض معين وأنت مراقب فأنت تدرك مثلا أن الأمر مرتبط بأفكارك ذلك أن الجسد إنما هو من مخرجات الأفكار والمشاعر وبالتالي تقوم بمراجعة شاملة لتلك الأفكار والمشاعر وتجري تعديلات عليها وهنا تنبيه مهم وهو أن تكون على مقدار المسؤولية تجاه جسدك ومشاعرك وأفكارك وأن تدرك العلاقة الارتباطية بينهم. ولو ذهبنا إلى القرآن الكريم لوجدنا المراقبة فيه من خلال قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} سورة يوسف (90) فالتقوى والصبر هي في تصوري المراقبة المطابقة لما هو موجود في ثناياي مقالي ولو قمنبتفكيك النص كأداة لتحليل فكرة المراقبة فسيكون كالتالي: (تقوي- صبر- الله- لا يضيع- أجر- محسن) ولنفهمه أكثر سنجري عملية الربط التالية: التقوى والصبر قيم إنسانية وبالتالي هي أفعال تختص بالإنسان يختارها اختيارا, والله سبحانه هو الداعم والآمر بتلك القيم السماوية, وهو سبحانه الحفيظ لأجرك أيها المحسن/المراقب. ولو تسألنا من هو المحسن حسب هذه الآية الكريمة سنجده ذلك الإنسان الفاعل للتقوى والصبر الذي هو المراقب لنفسه. أفرأيتم المنزلة العظيمة للمراقب. يقول المفكر الروسي فاديم زيلاند: أنت لست أفكارك ولا أحلامك ولا عضلاتك أنت ذلك المراقب الداخلي/المشاهد لكل ذلك وبشكل أكبر وأكثر ولكن هذا المراقب/المشاهد عند أكثرنا يغط في نوم عميق وإن فائدته أنه يتابع علاقاتك مع الأشياء والأحداث ذلك أن هذه العلاقة هي ما سينتج مشاعرك. وعندما يقول الأول:
(لا تجعلن دليل المرء صورته
كم مخبر سَمِج في منظر حسنِ)
هو يريدك أن تُفعِّل المراقبة الفاحصة والمشاهد الداخلي وتتجاوز الشكل الخارجي أو البرانية التي يصيبها القصور والخطأ. وأخيرا سأقول: من راقب مجموع (نواياه وأفكاره ومشاعره وتصرفاته) ثم وجهها إلى حيث حقول الجمال والحب والسلام والبهجة سيدخل جنات ممتعات يانعات.